التاريخ دوماً يحوي موجات كبيرة من التغيير، والتقدم البشري في المجال المادي في القرنين الماضيين، الذي يرى بعض المؤرخين أنه يوازي التقدم في تاريخ البشرية كلها، قد صاحبه تغيير حاد في الأفكار، ونشوء متطرف للثورات، وأثر بشكل ملموس في حركة الثورات في العالم، وساهم في ذلك سرعة انتشار الأخبار ومعها بالتأكيد المعتقدات والمناهج الفكرية.
يذكر المؤرخون الثورة الفرنسية كنقطة محورية في التغيير من الدول الملكية والقيصرية إلى الجمهوريات الحرة، وقد أدى نجاح الثورة الفرنسية -في أولها طبعاً فقد تعثرت عدة مرات حتى وصلت إلى وضعها المستقر بنهاية عام 1799م- إلى اشتعال الثورات في العالم كله، وصاحب ذلك جنوح نحو معاداة الاحتلال الأوروبي والمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
السودان لم يكن بمعزل عن الأحداث، وينبغي الاعتراف هنا بأن فكرة الدولة الواحدة نفسها لم تكن اختراعاً محلياً، بل كانت إرثاً عثمانياً بامتياز، فالدولة العثمانية وبواسطة والي مصر آنذاك، محمد علي باشا، قام بالقوة العسكرية بجمع قبائل ودويلات متفرقة تحت حكم واحد، فقبل محمد علي كان لكل قبيلة ملكها وسلطانها، وقام العثمانيون ومن بعدهم الإنكليز بالتمدد والتوسع في الأراضي التي تجاورهم في هذه المنطقة، حتى وصلوا إلى الشكل الأخير الذي ورثه السودانيون يوم الاستقلال في مطلع عام 1956م.
وبما أن الفضل في صناعة دولة واسعة المساحة كالسودان يمكن إرجاعه لحقبتي الحكم التركي (1821م -1881م) والاستعمار البريطاني بأشكاله المختلفة -كان له أكثر من شكل ابتداء بالحكم الثنائي وانتهاء بالحكم الإنكليزي الخالص- ( 1899م – 1956م)، فإن مما لا يعرفه الكثيرون أن أغلب دول الشرق الأوسط تم تشكيلها، أو بالأصح تفتيتها لوحدات صغيرة -وفق مقررات اتفاقية سايكس بيكو- فإن السودان كان استثناء للعرف آنذاك من توجه نحو التقسيم، فالاستعمار في السودان وحد المجموعات العرقية المختلفة والدول الصغيرة المتفرقة إلى دولة واحدة.
فورث السودانيون بذلك دولة ونظاماً مدنياً ونخبة أنفق الإنكليز في تعليمها الكثير، وتأثرت تلك النخبة بالمد الثوري في العالم، وساهم في ذلك الكثافة الكبيرة التي وردت بها الأفكار والأيديولوجيات من الخارج بمختلف مستوياتها تطرفاً واعتدالاً، ويمكن اعتبار النخبة -حديثة التكوين آنذاك- غريبة ومستجدة على ثقافة الدولة والمجتمع المدني، وذلك يرجع لتأثرها المباشر بروابطها ما قبل نشوء الدولة من قبلية وطائفية، مما كان أحد الأسباب المباشرة في عدم الاستقرار الذي لازم السودان منذ استقلاله وحتى الآن.
فثقافة قبول الآخر وتجنب العنف والاحتكام للمؤسسات وتمتين المجتمع المدني كلها كانت أفعالاً لم تتبنّها النخب القديمة، ولم تلتزم بها، فأغلب الأحزاب مارست الانقلابات، ونفذت إقصاء للآخر، ومارست تجييشاً للشعب بلا هدف سوى النفوذ باسم القبيلة أو الطائفة، وتستراً بلافتة الحزبية.
حتى عرض الأفكار والدفاع عنها والتحيز إليها كان يتم ببدائية وهمجية واستغلال للعاطفة الثورية وإقصاء للرأي الآخر وشيطنته، وعدم نقد أفكار الأنداد بشيء من التجرد والنقاش الموضوعي، فإما أسود أو أبيض.
بعد انتشار وسائل المعرفة، وتوافر طرق مطالعة الأفكار في العالم كله التي لم تكن متوافرة من قبل، نشأ جيل جديد من النخبة يمكن ملاحظته من خلال كتابات المدونين، ومن خلال حركة المجتمع المدني، وخاصة في شقه الطوعي؛ إذ نشأ جيل جديد يتميز بالاطلاع الواسع على مختلف التيارات الفكرية، جيل أقل عاطفة في التعاطي مع القضايا، وأقل توتراً في الانحياز نحو أفكاره، جيل يتقبل النقد، ويبادر بالحلول، ويسعى نحو الأفضل.
وإذا أخذنا عينة من النخب الشابة التي تنتمي للتيار الإسلامي -باعتباره يحوي أكبر عدد من المدونين حسب متابعتنا- نجد أن ملامح خطاب تلك النخبة يتميز عن الجيل القديم بعدة مميزات، يلخصها المدون والناشط إيهاب إبراهيم في عدة نقاط، أهمها:
إحياء فقه المراجعات، فلا شيء فوق النقد ولا تقديس لشيخ أو عالم، فالكل يؤخذ من قوله ويرد، ويوضع تحت عدسة التحليل، وأيضاً يتميز خطاب النخبة الصاعدة بالتعامل بحذر مع كل ما يثير الفرقة والشقاق بين مكونات المجتمع.
محاولة توطين الخطاب الإسلامي أو ما يسمى بالسودنة، أو بتعبير آخر اعتماد الواقع السوداني كمدخل نحو الحل، والتوقف عن استيراد نماذج بعيدة عن الواقع، ولو كانت تنتمي لمجتمعات مسلمة.
بدء تكوين هم مشترك في الواقع السوداني، وقد كان ذلك صعباً للغاية فجمع مختلف التيارات الوطنية تحت هدف واحد أمر افتقدته النخب السابقة، وقد ظهر تلاحم الشباب المثقف الجديد في عدة قضايا، أبرزها الضجة التي صاحبت التعديلات الدستورية الأخيرة.
المستقبل في السودان قد يبدو كالحاً، ولكن الجيل الصاعد من الشباب يؤكد أنه يمتلك القدرة على المبادرة والحركة والتأثير بفعل الوسائل التي لم تكن متاحة من قبل، وقد ظهر ذلك جلياً بعد أن نظم بعض الشباب دورة في التأسيس المعرفي كان أغلب المتحدثين فيها والمشاركين من الجيل الجديد، ذلك الجيل الذي لم يشهد الثورات القديمة في السودان، ولكنه بالتأكيد شهد آثارها، وعاش واقعاً صعباً نتيجة لفشل الذين مضوا في صنع وطن صالح للحياة بكرامة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.