هل خاطرت يوماً بنفسك وأحببت كل البشر دون قيد أو شرط، دون أدنى وقاية؟ هل نسيت نفسك وضحّيت بوقتك وسمعك وقوتك وطاقتك خدمةً لهم؟ هل غضضت بصرك وتغابيت عن الكثير من المواقف كنت فيها أنت المظلوم تجاوزتها تحسباً لأي اصطدام؟ التزمت الصمت بحجة الحكمة والنضج وقتلت فيك الإحساس من شدة الألم.
نعيش وسط كتلة من الأشخاص من المفروض أخذ الحيطة والحذر ونحن نتعامل معهم في خطاباتنا، كل شيء يبدو مهترئاً على شفا حفرة من الانهيار، يكفي أن تقع في الغلط بقصد أو بغير قصد ويضربون بعدها عرضَ الحائط بكل الامتيازات التي قدمتها في وقت ليس بالبعيد.
أحببت أن تربط أواصر الثقة بينهم، لكنك لم تستطِع رغم كل محاولاتك الألف الفاشلة، تحاول بجهد مستميت وتجد نفسك في نقطة الصفر مقتنعاً كلياً أنك لست صالحاً للعلاقات، لست مؤهلاً اجتماعياً ويلزمك الكثير من المرونة لفك هذه الشفرة المعقدة التي تحمل في طياتها فلسفة عميقة عمق بئر فوهاء بعيدة الغور ترى ماءها بالمقربة من عينيك وقعرها سهل الوصول إليه، لكن في الواقع المسافة الرابطة بين الماء وعينيك تعادل طول برج شاهق لا يكاد يحده البصر من شدة العلو.
تعجز وأنت تحاول خلق حبل الثقة والألفة عن أن تفهم مراد البشر، يعني هل يقدسون هذا الحبل المتين؟ هل صداقتهم ستبقى مشيدة إلى أجل غير مسمى؟ أم ستنهار عند أول هفوة منك؟ كأنك ملاك معصوم من الغلط، فجأة وبدون مقدمات يتمزق الحبل المتين الذي خلقته وحاولت الحفاظ عليه رغم تماديهم في الضلال حرصت عليه أنت، نعم أنت؛ لأنك تؤمن بغض الطرف، وتوقن أن استمرار الأشياء يكمن في الستر والتصالح، تصالحك مع ذاتك وكل شخص يحيط بك تقبله بسيئاته وتحترمه وتشرفه بمحاسنه التي تخفي كل النقط السوداء، هذا الجهد الجهيد كله للحفاظ على الحبل الذي أصبح وللأسف هشاً ممزقاً، أخيراً تقرر التخلي؛ لأن التعلق به مضر بروحك أولاً وبكرامتك ثانياً، وبصحتك النفسية ثالثاً.
بعدها تدخل دائرة مليئة بالأفكار وتأنيب الضمير، يبدأ عقلك بالتحليل والتفكير اللامتناهي وطرح أسئلة وجودية يعجز عقلك المتعب عن أن يجيبك عنها، هل أذنبت؟ هل ظلمت نفسي أم ظلمتهم؟ لماذا أنا؟ أي معصية هذه؟ وأي لعنة؟ إلهي هل لي في ثقة عبادك ومحبتهم نصيب؟.. دائرة لن ولا تنتهي أسئلتها، في النهاية يقتنع داخلك، وتقتنع روحك المتصدعة قناعة مسافر رجع لتوّه من رحلة سفر كلها متاعب ومسالك وعرة بين مطبات ومنعرجات، صمم بعدها وبشدة أن يستبدل حافلة النقل بعربة تقيله وحده، يقودها كما يشاء ويتفادى بها عذاب النقل الجماعي وما يترتب عليه من أضرار.
تدخل عالم الوحدة، وتصبح شخصاً منطوياً بامتياز، طبياً تصير مكتئباً، يعني وصولك لمرحلة اختيار الوحدة يصنف من الحالات المرضية استناداً لمعطيات الطب، لم يفهموا إلى حد الساعة أنك قطعت أشواطاً وماراثوناً من العلاقات والاصطدامات إلى أن وصلت إلى قناعة شخصية تامة بأن وحدتك تحفظ شرفك وتصون كرامتك وعرضك، وسط كومة الخداع والأقنعة الزائفة.
أن تقرر العيش وحيداً منعزلاً، يعني أنك غني عن العباد، شجاع بما يكفي أن تصارع الحياة بشرف، دون تقاسمك مشاعر عارية من الوفاء والحب الخالص لله مع بشر مكسو بالمكر وأنصاف المعاملات يقلق راحتك ويستنزف طاقتك بغرض صداقة مؤقتة تاريخ صلاحيتها لا يتعدى تاريخ صلاحية علبة سمك.
أتذكر ما قاله تشي جيفارا: "العز في الوحدة، لكنه لا بد للناس من الناس"، تجنبهم لفترة مسألة صحية تعز بها نفسك، لترجع بعدها قوياً بقدر كافٍ لتحمل كومة الطباع المعقدة.
هذه أنا أكتب للوحدة؛ لأنها صديقتي الوفية، أحكيها وأتقاسم معها كل الأشياء دون تكليف، تتحملني وأتحملها وأرى فيها ملاذي بعيداً عن الحياة الساخرة، لا تقسو عليّ مثل قسوتي على نفسي، وحيدة مؤقتاً؛ لكي أفهم العالم وفلسفته، لكي أقوى على تقبل كم العبث واستساغة طريقة تعامل تليق بكل صنف من البشر، وحيدة في عالمي؛ لأن الحياة به ممكنة التحمل، وحيدة أنا.. إلى أن يأتي من يطابقني، وحيدة أنا.. إلى أن يأتي القمر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.