لا تزال قوارب الموت تحصد أحلام الشباب العربي في عرض البحر، حتى أصبحنا الطعام المفضل للأسماك التي اعتادت، كما يبدو، امتصاص دمائنا، والاقتيات بأشلائنا، وأصبحت هي من تصطادنا لا نحن.
كان من بين ضحاياها شاب مغربي في مقتبل العمر يدعى رشيد مستور، ينحدر من ضواحي أغادير، قادته أحلامه وتطلعاته إلى ركوب أمواج البحر، بعد أن سئم ركوب الوهم والوعود الكاذبة، واتخذ قراراً حاسماً في حياته بأن يغادر بلا رجعة الأرض التي ترعرع فيها مع أسرة متواضعة الحال، كانت آماله وأحلامه أرقى من أن تزجّه في دوامة الانتظار وطوابير وضع الترشيحات وطلبات العمل، فقرّر العبور إلى ليبيا رغم الحرب الطاحنة هناك، ومنها إلى إيطاليا، بلد الحب والفن والغناء، بلد الصناعة والعلم والموضة، جنة الأرض التي طالما عاش تفاصيلها في نومه واستلقائه، في حديثه وصمته، في كتاباته وقراءاته، كانت إجازته في علم الاجتماع كفيلة بأن تكشف له عن عيوب مجتمعه ونواقصه، وأن تبني في ذهنه لبنات مجتمع مثالي بكل تجلياته، يرى فيه ذاته كما يحب أن يراها، كل هذا يوجد في إيطاليا؛ حيث الحياة على حقيقتها كما خلقها الله عز وجل.
قبل إقدامه على مغامرته وإحساسه بصعوبتها وحدّها الفاصل بين الحياة والموت، كتب على جداره في الفيسبوك كلمات مؤثرة حاول فيها أن يلخص معاناته، قال رشيد: "سنغادر هذا الوطن آجلاً أو عاجلاً.. سنغادره ليس حباً في أوطان غيرنا، سنغادره لأننا مجبرون على المغادرة…".
هاجر رشيد أرض الوطن ومثله كثيرون، ترك فيه نسخة منه منتهية الصلاحية، وحمل معه ماضيَه وحاضرَه فقذفهما في قارب مهترئ مكتظ بعديمي الأمل؛ لعله يصل به إلى المستقبل؛ حيث توجد كينونته ويوجد رشيد الحقيقي، ترك كل شيء في بيت صغير لا يوجد فيه شيء، وأمّاً فقدت الثقة في كل شيء، تألمت حتى وصلت حدّ الإشباع فلم يعد يحركها حزن أو فَقْد، وأباً بلغ من السن مبلغاً لم يعد يشغله سوى تكلفة مقبرته من أين يأتي بها وكيف يُورّثها.
كان بالإمكان أن تكون رحلة تنزّه إلى منتجع في إفريقيا الوسطى مثلاً، أو رحلة استكشاف علمية للنسيج السكاني في أدغال أميركا رفقة 18 طالباً من الذين معه، في إطار تحضير بحثه لنيل شهادة الماستر في السوسيولوجيا كما يفعل الطلاب في الجامعات الغربية.
غير أن الأقدار شاءت أن تكون أولى رحلاته رحلة صوب المجهول، يرى الموت ينبض في قلبه وفي عيون الفارّين معه مثلما يرى شريط الأفق أمامه، وبصيص من الأمل يراوده من حين لآخر، لكنه يلفظ أنفاسه عندما يصطدم القارب المجنون بموجة عاتية، فتشهق الأفواه وتشخص الأبصار.
رأف البحر بالمسبّحين والذاكرين على متنه، وشاءت رحمته أن يواصل القارب المسير نحو الهدف المنشود، لكن سرعان ما انقلبت الرحمة إلى ضجر، والرأفة إلى هيجان، فالبحر كالإنسان لا يؤتمن شرُّه.
رحل رشيد من عالمنا مظلوماً، لم تكن طموحاته بأوسع من هذا البحر الذي ابتلعه ولا أكبر من أمواجه، بل كان يطمع فقط قيد حياته في مستقبل يصون كرامته ويعوّضه سنوات الحرمان، يحقق فيه بعضاً من أحلامه، تلك الأحلام التي طالما ناقشها مع زملائه في المدرسة والجامعة ومع أصدقاء الدرب بشغف وإصرار، كان يعلم أن المشوار صعب، والظروف أصعب، لكنه تشبث بالأمل، وأصر على التحدي، وبدأ رحلة الكفاح من الخطوة الأولى، إلى أن وصل به السبيل إلى مفترق طرق حاسم، فكان لزاماً عليه أن يتخذ هذا القرار القاسيَ بعدما غُلّقت كل الأبواب في وجهه، وأحس مرارة الإحباط، بقي أمامه مصيرٌ واحد لا غير، طريق العبور إلى الضفة الأخرى، لكن القدر شاء أن يُنهيَ فصول هذه القصة الأليمة نهاية دراماتيكية، وأن تذوب كل هذه الأمنيات في زبد البحر، تحت أعين السماء والنوارس… وداعاً رشيد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.