شغلت كندا الرأي العام في العالم السنوات الأخيرة بموقفها من التسامح وحرية الأديان، لكن فيما يبدو أن البريق الكندي أصابه شيء من العنصرية التي بدأت تجتاح العالم في العامين الأخيرين، بعد التضييق على الطلاب المسلمين في صلاة الجمعة.
ففي مقاطعة بيل المدرسية خارج تورونتو في كندا، التي ظلت لعقدين من الزمن وهي تسمح للطلبة المسلمين بأداء صلاة الجمعة باستقلالية، كجزءٍ من سياسة مُطبَّقة في العديد من المناطق الكندية تستهدف استيعاب المعتقدات الدينية في المدارس العامة، لكن في الخريف الماضي تغير الوضع.
وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، الإثنين 26 يونيو/حزيران، إن إدارة المدرسة قررت توحيد الصلوات، وتوفير ستة خطبٍ خاضعة للموافقة سلفاً يمكن للأطفال القراءة منها، بدلاً من السماح لهم بإلقاء خطبهم الخاصة.
احتجَّ الطلاب المسلمون، قائلين إنَّ القرار ينتهك الحق في حرية التعبير، وتراجعت الإدارة عن قرارها سامحةً للطلاب بكتابة خطبهم الخاصة.
لكنَّ الخلاف أشعل عاصفةً من الاحتجاج استمرت أثناء الربيع.
وبحسب الصحيفة الأميركية يشغل الرأي العام الكندي والشبكات الاجتماعية عدة نقاشات حول ما إذا كان الاستيعاب الديني تحوَّل إلى معاملةٍ خاصة، فقد ظهرت عريضة تُطالب بإلغاء الصلوات في المدارس العامة. وفي أبريل/نيسان، تلقَّى إمامٌ محلي يدعم مجلس الإدارة تهديداً بالقتل. والآن تحمي الشرطة المحلية اجتماعات مجلس الإدارة.
ويقول جيفري ريتز، مدير برنامج الدراسات الإثنية ودراسات الهجرة والتعددية بجامعة تورونتو لنيويورك تايمز: "رغم أنَّ لدينا سياسة تعددية ثقافية، يتوقع معظم الكنديين أنَّ المهاجرين سيتكيفون مع التيار العام. وقد حظيت جماعاتٌ عدة بقرارات الاستيعاب الديني، ومن المتوقع أن تجد رد فعلٍ قوياً بين الحين والآخر".
ويقول علماء الاجتماع إنَّ مشاكل مدارس بيل هي نوعٌ من النزاعات في المجتمعات التعددية، وفيها يتحدى المهاجرون والأقليات جوانب من التعددية الثقافية التي ترعاها كندا.
وتقول نيويورك تايمز في عام 2015، احتج عددٌ من السكان المحافظين في إدارات أونتاريو المدرسية، بعضهم من المسلمين، على منهج التعليم الجنسي المُحدَّث، لأنَّه يعلم الأطفال أسماء الأعضاء التناسلية ويتحدث عن العلاقات المثلية.
ومثل جارتها الجنوبية، كندا بلدٌ من المهاجرين، ما يساعد في تغذية روحٍ قومية تحتفي بالتعددية. وفي 2011 كان أكثر من 20% من الشعب الكندي مولودين بالخارج، وهو رقمٌ من المتوقع أن يصل إلى 30% بحلول عام 2031 وفقاً لتقديراتٍ حكومية. وقد تتعدى نسبة الأقليات الإثنية 60% من السكان في مدنٍ مثل تورونتو وفانكوفر.
كانت التغيرات الديموغرافية ملحوظة على وجه الخصوص في تورونتو الكبرى، وهي مزيجٌ من المدن والضواحي التي تزخر بمجموعةٍ واسعة من اللغات والأديان.
والإدارات المدرسية مثل الموجودة في بلدية بيل تقع في واجهة معارك التعددية الثقافية. فهي من ضمن المقاطعات الأكثر تنوعاً في البلاد، إذ يوصف أكثر من 60% من السكان بأنَّهم "أقليةٌ ظاهرة"، أو ينتمون لغير البيض، وفقاً لتعداد السكان لعام 2011.
وتستند بلدية بيل في سماحها بأداء الصلاة في المدارس إلى بندٍ من بنود ميثاق حقوق الإنسان بأونتاريو، فسَّرته لجنة حقوق الإنسان بأونتاريو على أنَّه يُلزم المدارس المُموَّلة حكومياً، العامة منها والكاثوليكية، بـ"استيعاب" الطلاب فيما يتعلق بإقامة شعائر الأديان، بحسب نيويورك تايمز.
وبحسب الصحيفة الأميركية بالنسبة لفارينا صدِّيقي، الناشطة المسلمة التي تبلغ من العمر 43 عاماً ويذهب أطفالها إلى مدارس عامة وكاثوليكية في بلدية بيل، فإنَّ السماح للطلاب بالصلاة مرة في الأسبوع هو أمرٌ متعلق بالحرية الدينية.
وتقول فارينا: "لا نطلب من المدارس أن توفر ساحة صلاة لكل ممارسي الشعائر. نحن نطلب فقط بالحق في مساحة لأداء الصلاة". ودعمت فارينا السماح للأطفال بكتابة خطبهم الخاصة.
ويختلف معها تارون أرورا، وهو هندي يبلغ من العمر 40 عاماً ويعمل في شركة توفر خدمات مراكز الاتصال، وهاجر إلى كندا من الهند عام 2003. إذ يقول إنَّ مجالس إدارات المدارس لا ينبغي أن تدعم الخطب أو تسمح بالصلاة في مدارس الأطفال العامة على الإطلاق، فهو يرغب في أن تكون المدارس علمانية بالكامل.
وأضاف: "إنَّني أرسل أولادي إلى المدرسة ليحصلوا على التعليم، لكن المدارس تُعامَل الآن مُعاملة دور العبادة الدينية، وهذا ليس أمراً صائباً".
"أبعدوا الدين عن مدارسنا العامة"
وتقول أرورا العضوُ في جماعة كروبس، وهي اختصارٌ لجملة "أبعدوا الدين عن مدارسنا العامة"، والتي تأسست في يناير/كانون الثاني، حين قرر مجلس الإدارة السماح للأطفال بكتابة خطبهم الخاصة. نظمت الجماعة احتجاجاتٍ خارج مقرات اجتماعات المجلس الأخيرة، وصرَّحت بأنَّها تُخطِّط لرفع قضيةٍ ضد سياسة السماح بالصلاة في مدارس بيل، مجادلةً بأنَّ القانون لا يسمح بهذا صراحةً.
وجماعةٌ أخرى تحمل اسماً مماثلاً، "أخرجوا الدين من المدارس العامة"، نشرت عريضةً إلكترونية تطالب بإلغاء التجمعات الدينية والنوادي العقائدية في المدارس الكندية. وحصلت العريضة على أكثر من 6500 توقيع في أنحاء كندا والولايات المتحدة.
كثيرٌ من التعليقات على العريضة تنتقد الإسلام على وجه الخصوص. لكنَّ ثلاثة من أعضاء الجماعة، وكلهم من الكنديين الهنود، قالوا إنَّهم يعارضون ممارسة شعائر أي ديانة في المدارس العامة، وليس الإسلام فقط.
وقالت رينو مانداني، المفوضة العليا بلجنة حقوق الإنسان والمسؤولة عن تفسير ميثاق أونتاريو، إنَّ المدارس من واجبها استيعاب المعتقدات الدينية، بحسب نيويورك تايمز.
وأضافت: "الاستيعاب لا يساوي تشجيع الممارسات الدينية أو المشاركة فيها. لم نقل ما إذا كان الاستيعاب يتطلب تخصيص مساحات للصلاة في المدارس. لكنَّ المطلوب هو استيعاب معتقدات الشخص استيعاباً معقولاً".
وفي حوارٍ لـ"نيويورك تايمز"، شكَّكت رينو في جدلية كثيرٍ من المتظاهرين بأنَّ السياسة تُفِيد المسلمين فقط، وأشارت إلى أنَّ المسيحيين واليهود تم استيعابهم بالفعل لأنَّ الأيام الأهم في عقيدتهم تتزامن مع إغلاق المدارس في عطلة نهاية الأسبوع.
وأكملت حديثها: "بطرقٍ كثيرة، ما نراه في بيل هو حد التقاء حقوق الإنسان والتنوع المفرط. ما تُظهِره بيل هو أنَّ الأماكن التي تتمتع بتنوعٍ عرقي هائل يمكن أن يتواجد بها أشخاصٌ يعترفون بالمجتمعات الأخرى، لكن يختلفون حول قضايا حقوق الإنسان".
بالنسبة لإدارة بيل المدرسية وكثيرٍ من المسلمين في المنطقة، فإنَّ الصراع حول الاستيعاب الديني لا يعدو كونه ضرباً من الإسلاموفوبيا.
أوصاف معادية للمسلمين
وذكرت "نيويورك تايمز" في اجتماعات المجلس، صرخ محتجون بأوصافٍ معادية للمسلمين، بينما انتشر الهجوم على المسلمين الذي يتحدثون علناً على الشبكات الاجتماعية، ما أدى إلى تمركز قوات الشرطة في مقار الاجتماع وخارج المدارس. والإمام الذي تلقى تهديداً بالقتل وصلته كذلك رسالة إلكترونية تدعو إلى حرق مسجده.
وفي أثناء أحد الاجتماعات المشحونة، قام رجلٌ ومزق صفحاتٍ من القرآن، ما سبب صدمةً لمجتمعٍ لطالما ثمَّن تقاليد التسامح.
وتقول رابعة خضر، المديرة التنفيذية لمجلس بيل الإسلامي، الذي ضغط على الإدارة المدرسية دعماً لحق الطلاب في الصلاة: "هؤلاء يحاولون سكب البنزين على النار واستغلال جهلنا. الاستيعاب الديني لا يستهدف إقصاء الجميع، وإنَّما احتواء الجميع".
لكنَّ أنفير سالوجي، أستاذ العلوم السياسة بجامعة رايرسون بتورنتو، لديه تفسيرٌ آخر. إذ لاحظ سالوجي أنَّ كثيراً من المعارضين لسياسة الاستيعاب الديني هم من المهاجرين الهنديين، ومن بينهم قوميون هندوس، ما يشير إلى أنَّ المعركة في كندا هي انعكاسٌ بشكلٍ أو بآخر للنزاع التاريخي بين الهندوس والمسلمين في جنوب آسيا.
لكنَّ الجماعات المعارضة للاستيعاب، والتي تضم أناساً من مختلف الأعراق والديانات، تنكر هذا. ويقول الأعضاء الهنود الكنديون بالجماعات إنَّ قلقهم لا علاقة له ببلدٍ تركوها قبل أعوامٍ، وربما عقود.
ويقول رام سوبراهمنيان، مؤسس جماعة "أبعدوا الدين عن مدارسنا العامة"، لنيويورك تايمز، إنَّ ديانته "هي الكندية، وهو ما يمدني بالقوة لأقف وأقاتل".
وقالت شيلا كبريا كارتر، وهي مديرة مالية من أصلٍ بنغلاديشي، وُلدت منذ 42 عاماً في كندا وعاشت بها، وتعيش الآن في بلدة برامبتون القريبة، إنَّها كانت تصلي في المدرسة أيام الجمعة حين كانت طالبةً في مدرسة ثانوية ببلدية بيل في التسعينات. ولم يكن هناك أي تعطيل للفصول أو أي شكاوى وفق قولها.
وأضافت "ما يريده هؤلاء النفر هو نشر الكراهية. لقد عشنا في انسجامٍ مع السيخ والهندوس والبيض طوال حياتنا، والآن يخرج علينا فجأة شخصٌ في اجتماعٍ يمزق صفحاتٍ من القرآن".