دروس وعبر من حياة أبراهام لينكولن

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/22 الساعة 05:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/24 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش

لا يملك المرء عند قراءة السِّير الذاتية للرؤساء والقادة الناجحين إلا أن يُعجب بطموحهم وعملهم الجاد وحبهم لتطوير الذات، من قراءة وثقافة وتعلُّم، وصقل للمهارات وتنمية للأخلاق. إضافة إلى تفانيهم وإخلاصهم في العمل، وبُعدهم عن أسباب اللهو من المسكرات والنساء والمقامرات. فيندمج القارئ في تفاصيل حياتهم، ويسعد بنجاحهم وكأنه يعيش معهم. وهؤلاء هم من يجب تسليط الضوء على حياتهم في مختلف مؤسسات المجتمع، إضافة إلى مختلف الأعلام الذين تمكنوا من إحداث تغيير إيجابي في العالم ليكونوا قدوة للآخرين، وفرصة لتعلُّم طرق تحدي الحياة وتحقيق الأحلام.

وفي قراءتي للسيرة الذاتية لأبراهام لينكولن، وجدت تميُّز حياته بالجدية وحب العمل والتعلّم. لقد كان مجتهداً منذ صغره، فساعد والده توماس لينكولن في أعمال الزراعة. وفي شبابه عمل بالتجارة وفي صنع عربات التحميل، وفي القيام بمختلف الخدمات للمنازل، فلم يكن ينأى عن أي عمل طالما يحقق له ما يحتاج من مأكل ومبيت، مجنِّباً نفسه الكسل والتسوّل.

كما ابتعد عن تناول المسكرات من الكحول والتبغ، ولم يخالط النساء كما كان منتشراً بين الشباب في عصره، وإنما انكبَّ على تعليم وتثقيف نفسه بقراءة مختلف كتب اللغة والأدب والفلسفة. ثم اكتشف حبه للسياسة والخطابة، فعمل على تطوير نفسه ليكون سياسياً ناجحاً ومحبوباً. فوضع هدفاً وسار نحوه بالعمل والجد والاجتهاد، حتى إنه درس القانون ليكون أكثر قدرة وكفاءة في العمل السياسي.

وفي عمله كمحامٍ، لم يكتفِ لينكولن بمعالجة مختلف القضايا المحلية، وإنما وسَّع من خدماته في مختلف الولايات، فأصبح معروفاً ومحبوباً في الشرق والغرب. وتألق نجمه واشتهر ببراعته في مختلف المحاكم، ويعود ذلك إلى دراسته المجدّة لكل قضية وتحليلها من كافة الجوانب.

وعندما أصبح رئيساً، لم يكن يملك الخبرة العسكرية والإدارية الكافية لإدارة الحرب الأهلية، فانكبَّ على دراسة مختلف الكتب واستشارة أعضاء إدارته وأصدقائه، ونجح في تحقيق السلام والمحافظة على اتحاد الولايات الشمالية والجنوبية، إضافة إلى تحرير العبيد من كافة الولايات الأميركية.

وفيما يلي تفصيل لبعض الدروس والعبر من رحلة كفاحه:

1. الصدق والنزاهة لاكتساب السمعة الجيدة
نال لينكولن العديد من الألقاب في حياته التي عكست صدقه ونزاهته. فمثلاً، تم تلقيبه بالصادق، لأنه لم يتهرَّب من ديون المتجر الذي افتتحه مع شريكه ويليام بيري كما كان شائعاً في ذلك الوقت. فكان لذلك أثر في اكتسابه لسمعة جيدة وتكوين صداقات أكثر. وأقرَّ الجميع بأنه كان قائداً بطبيعته ومحباً لمساعدة الآخرين. وأفاد صديقه ديفيد تورنهام إثر قراءته لقصص الأخلاقيات على تصرفاته.

2. الجدّ والاجتهاد للتعلّم ولإعالة النفس
كان الفقر منتشراً في الحياة الأميركية بالقرن التاسع عشر. كما لم تكن هناك مدارس نظامية، وإنما كانت هناك صفوف مؤقتة تستمر من شهر إلى ثلاثة، ثم ينتقل الطلبة إلى الحقول للعمل فيها. وهذا لم يمنع لينكولن من الدراسة، فكان يجدّ في الدراسة ومطالعة كل ما تطاله يده من كتب أدبية وفلسفية، إضافة إلى القصص والأساطير الأخلاقية.

ثم عمل في العديد من المهن لأجل الحصول على الطعام والشراب والمبيت، وكان سعيداً بأي فرصة عمل. فعمل أولاً في الترحال لأجل بيع البضائع. فكانت أول مرة يسافر فيها وحده إلى نيو أورلينز من إنديانا، في نهاية ديسمبر/كانون الأول 1828. ثم عمل في مزارع الآخرين وموظفاً في متجر، ونال فرصة للعمل في مكتب البريد عام 1832، وفيه وجد فرصة للتعرّف على الناس من مختلف الولايات، وقراءة كافة الصحف التي كانت تصل المكتب، مما أسهم في زيادة أفق تفكيره وثقافته والإلمام بالشؤون السياسية.

ثم عمل مسَّاحاً، فعمل على مسح الطرق والمزارع والمدن في ألباني ونيو بوسطن وبيتسبيرغ، وأراضي المدارس العامة. وكانت هذه الوظيفة تجارة محبوبة في ذلك الزمن، وفرصة له للتعرّف على البشر من كافة نواحي الحياة.

وعندما بدأ العمل السياسي، لاحظ أن مختلف السياسيين المرموقين هم من حملة شهادة القانون، فقرَّر دراستها ذاتياً لعدم توفّر جامعة حينها في ولاية إيلينوي، ليتمكن بعد فترة من فتح مكتبه الخاص.

3. الشغف أساس النجاح
أدرك لينكولن أن شغفه في التعلُّم والمطالعة، وليس كأسلافه في التجارة وشراء الأراضي، فعمل حينها على تحفيز نفسه رغم عدم تشجيع والده له على التعلّم. إلا أنه كان يجدُّ في الدراسة لساعات متأخرة من الليل، وكان فضوله يجعله يقرأ كل ما يقع تحت يده من مختلف الكتب.

وعندما أدرك ميله للسياسة، عمل على تطوير مهاراته في الكتابة والخطابة، وزيادة جماهريته لدى الناس ومن مختلف الولايات، مستغلاً عمله في مختلف المهن. وبذلك نجد أن للشغف دوراً مهماً في تحفيز الإنسان وفي توجيه تركيزه نحو تحقيق الأهداف بخطوات مدروسة، وهذا ما نذكره بالتفصيل في النقطة التالية:

4. تحقيق الأهداف بخطوات مدروسة
عندما اكتشف حبه للسياسة بعد فشله في الترشّح لأول مرة في اللجنة التشريعية لولاية إلينوي وهو بعمر 23 عاماً، عقد لينكولن العزم على توسيع قاعدته السياسية، فداوم على حضور مجتمع المناظرات الذي كان يتم عقده مرتين شهرياً، وهو تقليد منتشر في كافة الولايات حينها. وبدأ بالخطابة أمام الناس حول مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، وكانت تتمثل خطاباته السياسية بالصدق والحماس، ثم بدأ بدراسة قوانين اللغة الإنكليزية ليتمكّن من الخطابة بشكل أفضل.

ثم عمل على إدارة حملة لنفسه من أجل دخول اللجنة التشريعية لولاية إيلينوي عام 1834، فنجح وتم انتخابه.

وكان لفضوله دور كبير في أن يصبح محامياً ناجحاً فيما بعد. إذ حرص على حضور المحكمة العليا لمعرفة كيفية سير المحاكمات والمناقشات السياسية، وتحضير المحامين لمختلف قضاياهم، إضافة إلى حضوره لاجتماعات مجلس الولاية التي واظب عليها. ثم عمل على تطوير مهاراته في الكتابة من خلال مراسلة صحيفة ويغ في سبيرنفيلد حول الجلسات التشريعية.

وفي أول خطاب له عام 1830، اكتشف لينكولن أن لحِس الدعابة والسخرية دوراً كبيراً في استمالة القلوب، فاعتمدها كأسلوب لباقي خطاباته، خاصة في مناظراته حول الرق مع الديمقراطي ستيفن دوغلاس. فكان لذلك دور في زيادة الطلب عليه لإلقاء مختلف الخطابات السياسية.

وعندما حصل على رخصة المحاماة في ربيع 1837، أصبح لينكولن يملك خبرة في كافة القضايا ومن مناطق أبعد، فأصبح معروفاً أكثر لدى المزارعين وأصحاب المتاجر، خاصة أنه كان يعمل فيها إلى جانب المحاماة من أجل توسعة قاعدة معارفه ومؤيديه، وأصبح بذلك يملك مركزاً قيادياً وثقافياً في مجتمعه.

ثم اشترك لينكولن في الحملة الرئاسية لويليام هاريسون عام 1840، وصار المتحدث عن حزب الويغ، فناظر الديمقراطيين، وبعد فوز هاريسون، ذاع صيته كمخاطب ومدير ناجح للحملات الرئاسية. وتمت دعوته للتحدّث في واشنطن عام 1842.

وفي 13 أبريل/نيسان 1859، أخبره المحرر توماس بيكيت برغبة الجمهوريين في ترشيحه للرئاسة، فعمل لينكولن على التخطيط لزيادة تأثيره السياسي بإلقاء الخطابات في العديد من الولايات.

5. عدم الاستسلام للفشل
خسر لينكولن في حياته أكثر من مرة في تحقيق أهدافه السياسية، ولكن لم يجعله ذلك انهزامياً ومنسحباً. فمثلاً، خسر بداية ترشّحه في اللجنة التشريعية لولاية إيلينوي، ولمقعد حزب الويغ في الكونغرس، فلم يستسلم، وأدرك أن سبب ذلك هو عدم امتلاكه لقاعدة عريضة من المعارف والمؤيدين له، فعمل على استغلال مختلف أعماله، ومن ثم إدارة حملات خاصة لنفسه، لينال بعدها ما أراده.

وفي الحرب الأهلية وبعد خسارة المعركة الأولى في بول رن، كتب لينكولن الدروس المستفادة من هذا الفشل، وعمل على تثقيف نفسه حول الأمور العسكرية لمحدودية معرفته فيها، وليتمكّن من إدارة الحرب. فلم يكن يخشى من قصور معرفته، وإنما أقر بها وعمل على تقويتها بالمطالعة واستشارة الآخرين.

6. احترام سيادة القانون
رغم رأيه الشخصي حول الرق وأنه أمر يجب منعه، إلا أنه لم يحاول أبداً كرئيس فرض ذلك، احتراماً للقانون الذي يجيزه. فمثلاً، في مناظراته مع ستيفن دوغلاس حول الرق، بيَّن لينكولن أنه لا يسعى للتفرقة بين الولايات الجنوبية التي ينتشر فيها الرقيق والولايات الشمالية التي تحررت من الرق.

وفي خطابه الأول بعد تنصيبه رئيساً، ذكر احترامه لقانون الرق، وأنه لا داعي لخوف ولايات الجنوب من قيامه بالتعدي على الدستور.

وخلال الحرب الأهلية، وضع لينكولن جورج فريمونت رئيساً لوزارة الغرب، فأصدر قراراً بتحرير العبيد المنتمين للمتمردين في الولاية، وذلك في 30 أغسطس/آب 1861، فغضب لينكولن وأخبره أن عليه سحب القرار لأن ذلك من شأنه أن يقلب الجنوب على الحكومة. فبرَّر أن الجيش يحتاج إلى وجود العبيد للمشاركة معهم في القتال. فأقاله من منصبه. وأفاد بعدم الخلط بين الأمور السياسية والعسكرية، وأنه أقسم على احترام الدستور، وسيحافظ على ذلك.

7. تحمّل المسؤولية وعدم الخوف من ارتكاب الأخطاء
كان أكبر خطأ سياسي ارتكبه لينكولن هو تجاهله لمطالبات الجنوب بالانفصال، عندما تم تنصيبه رئيساً لأميركا عام 1860. واستمر تجاهله حتى مع مطالبات صحف الجنوب بالخروج من الاتحاد. وخلال الأربعين يوماً من بداية انتخابه صوَّتت كلٌّ من مسيسبي، فلوريدا، ألاباما، جورجيا، لويزيانا، وتكساس بالخروج من الاتحاد. وبدأت الحرب الأهلية عندما وافق على زيادة الجيش الذي كان مرابطاً في كارولاينا الجنوبية.

فأدرك مسؤوليته في الحفاظ على وحدة البلاد، فحرص على متابعة سير الحرب واستبدال القادة العسكريين ممن لم يثبتوا جدارتهم في قيادة المعارك.

8. الاسترخاء والاستلهام لتجديد الفكر والروح
من المهم للإنسان أن يوازن بين احتياجاته العقلية والنفسية والروحية ليتمكّن من العمل بكفاءة وتحقيق النجاح. وهذا ما كان يقوم به لينكولن في فترة رئاسته، إذ كان يحرص على قضاء فترة الصيف في منزل بعيد عن البيت الأبيض، يسمى بمنزل الجندي، وذلك من أجل الاسترخاء والتفكير والتأمل والاستلهام مع عائلته وأصدقائه، ولزيادة مخزونه الثقافي من مختلف الكتب الأدبية والحربية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
إشراق عرفة
كاتبة وباحثة
تحميل المزيد