بوح الحروف

إن في الكتابة تعريةً للواقع في جل أبعاده، ورصداً للتفاعلات الكامنة في نسيجه، والمساهمة في تقليص رقعته أو توسيعها، وإبراز للعلل والأدواء التي قد تنخر هياكله.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/22 الساعة 06:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/22 الساعة 06:42 بتوقيت غرينتش

إن في الكتابة تعريةً للواقع في جل أبعاده، ورصداً للتفاعلات الكامنة في نسيجه، والمساهمة في تقليص رقعته أو توسيعها، وإبراز للعلل والأدواء التي قد تنخر هياكله.

الكتابة تفريغ لجملة من معلومات وأفكار على مساحة الورق طولاً وعرضاً، عبر الزوايا والحواشي لتتجانس وتتراص وتصبح على امتداد الدقيقة واليوم في معزل عن كل تلاش أو ضياع، وفي منأى عن أي تبدد أو اندثار.. تعود إليها عند الحاجة، فتنتفع بها وتستفيد، وتستنير بهديها وتستضيء ساعياً من خلال ذلك إلى توسيع مداها وإغنائه بكل جديد.

في الكتابة تتلاحق الحروف وتتعانق؛ لتجسد وتترجم بذلك حالات، وتفصح عن خلجات النفس، فتتناسق الأفكار وتتنامى المعاني، وقد صورت من خلال ما دلت عليه ورمزت إليه حالات الإنسان في لحظات تألقه وانحداره، انبساطه وانقباضه، تقدمه وتراجعه، وهو يصارع زمن القهر والتردي ويجابه حياة مليئة بالمتغيرات المدهشة.

إن في سيل العبارات من القلم استنطاقاً للأحداث والوقائع، بحثاً عن دوافع الولادة ودواعي النشأة والتكون ووقوفاً عند عوامل التأثر والتأثير وتطلعاً للغد الآتي، يحمل بين جنبيه المفاجئ والمثير، المضحك والمحزن.

تبحر في الكتابة سفينة الذات في لج عميق واسع، تتداوله رياح وأنواء، هي النتاج الطبيعي لما يحياه الإنسان من متاعب وفواجع، وما قد يكابده من ألم وحرقة.. تختلط المشاعر، فينتصب الحرف عبر دائرة السطور ليعبر في رسمه وإيحاءاته عن كل الصور والأشياء التي تجول في الخاطر وتتوه في الفكر، منتشلاً بذلك اللثام عن أهواء ونزعات، ميول ورغبات.. الكتابة لذة، مأزق جميل، صدى للصمت المكنون، إطلاق العنان للحبر ليفيض على بياض الورق بجاذبية في الاسترسال لا ينقطع وصلها ما دام في النفس مخزون وخبايا لم يطأها وقع القلم.

إن الكتابة ليست أمراً سهلاً أو فعلاً هيناً، فالكاتب كالسجين الذي يسعى بشدة للحرية، رغبته في البوح تؤلمه، تؤرقه، يحس بها كوخز إبر، لا يكف حتى ينهمك هو في التعبير، لتتدفق منه الكلمات دون سابق إنذار، فتصير بطلة ورقه، تتماهى معه لتسيطر عليه وتتملكه.. وإلى أن يصل إلى لحظة إطلاق سراحه، وجب على الكاتب الانزواء، حتى تعايش ذاته صراعاتها الوجودية، رهاناتها الحتمية، مخلفات ماضيها، أطياف ذكرياتها، معطيات حاضرها وآمال مستقبلها الخفي.

تنعزل الذات منتظرة لحظة المخاض، لحظة البوح والحرية، وبعدها لا يهم إن فارقت الروح الحياة.. فالحرف سيظل نابضاً، حياً، خالداً.
فما أروع فعل الكتابة وما أعذب وخزاته وما أجمل آثاره!

"القراءة تصنع إنساناً كاملاً.. والمشورة تصنع إنساناً مستعداً.. والكتابة تصنع إنساناً دقيقاً". فرانسيس بيكون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد