"الإنسان ذاك المجهول" لا شك أنك سمعت بهذا الكتاب الرَّائع من ذي قبل، لمؤلفه أليكسيس كاريل، والذي حاول فيه كاتبه بعد بحث مُضنٍ، وملاحظات دامت أعواماً في نظام هذا المخلوق العجيب، سعياً منه لمعرفة طبيعة هذا الإنسان، لكنه خلُصَ في الأخير إلى أنَّ هذا المخلوق هو من أعقد المخلوقات في تركيب خلقته، ومع كلِّ ما بذله الإنسان في مجال تقدم العلوم، واكتشافه لأسرار هذا الكون، فإننا نجد بأن المتعلقة به تبقى متأخرة ما لو قارنّاها مع باقي العلوم الكونية الأخرى، ومع ذلك، فإنه يظل من أجهل المخلوقات بنفسه، ويوضح سبب عدم معرفة الإنسان بنفسه، يقول إن ذلك لا يرجع لندرة المعلومات، بل إلى وفرتها وتشوشها -كما وضح ذلك في كتابه- وإنني هنا لست بصدد تقديم دراسة أو ملخَّص للكتاب، وإنما أحاول الحديث عن جانب مهم في حياة هذا الإنسان، أغفله الكثير منَّا اليوم كما أغفل الكثير من الوظائف الأخرى التي تتعلق به.
ما الإنسان؟ هل جربت أن تطرح على نفسك يوماً ما هذا السؤال، وتقرر الدخول في حوار مع ذاتك ومع هذا الكون المحيط بك، إن هذا لسؤال محيِّر فعلاً لمن يدرك حقيقته، كل منا يعيش وفق روتين الحياة المعهودة، لكنه لم يخطر بباله يوماً أن يتساءل عن طبيعة نفسه، حتى وإن تساءل فإنه سيستنتج في الأخير أن هذا الإنسان هو ذاك المجهول، على حد تعبير أليكسيس، لكن سؤال الإنسان نفسه عن ذاته، ليست الغاية المبتغاة منه هو إدراك حقيقتها، فإن ذلك مما تفنى دونه الأعمار، بل الغاية من ذلك الوصول إلى حقيقة خالقها ومصوِّرها، فإن عظمة المخلوق تدل على كمال الخالق كما هو مُقرّ، وكل ذلك ثمرة وظيفة مهمة في حياة الإنسان هي وظيفة التفكر.
ليس عجباً أن نجد من أولى الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق"، إن قصة هذا المخلوق محيِّرة فعلاً؛ لذلك كان من أولى الآيات التي أَنزلها الله على نبيه، آية تتضمَّن إشارة إلى أصل هذا الإنسان، إنه خُلِق من علق، هل تعتقد أن العرب كانت تعرف أن أصل هذا الإنسان هو نطفة، ثم يصير علقة مُلتصقة بجدار الرَّحم، ثم مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، ثم عظاماً ثم يكسوا العظام لحما.. إنها لأمور محيِّرة فعلاً لمن يستطيع التفكُّر فيها.. إذن لماذا يخاطب الله أولئك البدو بآيات عن أصل الإنسان، وأنه من صلصال من حمأ مسنون؟ أليس في هذا دعوة للإنسان إلى أن يتفكر في نفسه؟
عند كتابتي لإحدى التدوينات حول التدبُّر، شدَّ انتباهي لفظ آخر مقرونٌ بالتدبر وهو التفكُّر، وكما سأوضح الفرق أدناه بينهما، أنهما فعلاً جِدُّ متقاربين، لكننا وإن كنَّا متجاهلين لمفهوم التدبر، فنحن أجهل لمفهوم آخر لا يقل أهمية عنه، وهو مفهوم التفكر، لقد غدا الكثير منا اليوم يعتقد أنه ليس مشمولاً بأمثال هذه الآيات، التي تحثُّ على التدبر والتفكر وما يخاطب العقل، ويعتقد أن هذا مقصوراً على أهل الاختصاص، وبذلك فهو يكتفي بأداء أركان الإسلام الخمسة، ويتجاهل أعظم عبادة وهي التفكر في ملكوت الله عز وجل، وأهمها هي نفسه، حتى إن الله أنزل سورة باسم الإنسان، واستعرض فيها حقائق مرهبة ومحيِّرة.
إنه لأمر في غاية الأهمية أن توجد سورة كاملة باسم الإنسان، وفي بدايتها حقائق عظيمة، ربما هي مفتاح للإجابة عن هذا السؤال: ما الإنسان؟ في افتتاح السورة يُقرِّر الله عدَّة حقائق، في مقدمة تلك الحقائق أنه قد أتى زمان على الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً في هذا الكون، ثم يشير إلى الحقيقة الثانية وهي حقيقة الخلق وكيف أوجده الله من العدم، ثم يوضح الله الهدف الذي أوجد هذا المخلوق من أجله وهو الابتلاء، ولهذا زوَّده بوسائل المعرفة السمع والبصر، وهداه وبين له طريق الخير والشر، وترك له الاختيار.. ثم هو بين نوعين إما شاكراً فجزاؤه جنَّات عدن، وإما كافراً، فجزاؤه "إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً".
إن هذه الإشارات في هذه الآيات لم تُذكر عبثاً، وإنما هي محطَّات يجب أن يقف عندها الإنسان ويستبصر، هل تفكَّرت يوماً في نظام هذا الكون وكيف كان قبل أن تأتي؟ ثم كيف أوجدك الله من العدم؟ هل فكرت يوماً كيف تعمل هذه الأعضاء التي أعطاك الله إيَّاها، أذنك مثلاً وكيف تحمل إليك هذه الأصوات المختلفة؟ هل فكرت يوماً في عينيك وكيف تنقل لك هذه الصور الجميلة؟ هل تفكرت يوماً كيف لم يجمد ماء عيني من هم موجودون بالقطب الجنوبي؟ هل تفكرت يوماً كيف أن الأظافر والشعر ينموان، وهذا يعني أن فيهما حياة، ومع ذلك فإنك تقصهما دون أن تشعر بالألم؟ هل تفكرت يوماً في وظائف الدماغ؟ وكم من خلية داخل هذا الجهاز الصغير؟ والذي يُعتبر من أعقد الأجهزة فيك! هل تفكَّرت يوماً في وظيفة الأنف وفي التجاويف الموجودة فيه؟.. وهل؟ وهل؟
"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"؟ كثيراً ما يتناسى الإنسان حقيقته ويتعالى ويتجبَّر؟ وقد يصل به الأمر إلى تأليه نفسه، وهناك كثيرون ممَّن يحاولون البحث عن بعض الأدلة على وجود الله، وهم يتجاهل أقرب الأدلة إليهم ألا وهي نفوسهم التي بين جنبيهم.
وظيفة التفكر أنها من أعظم الوظائف الإيمانية، بل ومن أنجع الأدلة في الدلالة على وجود الخالق وقدرته وحسن تدبيره، هل أتاك نبأ إبراهيم عليه السلام مع قومه، وكيف كان يدعوهم بالحيلة إلى تشغيل عقولهم من أجل التعرف على عظمة الخالق؛ حيث قال لهم عندما عادوا ووجدوه قد كسَّر أصنامهم "اسألوا كبيرهم إن كانوا ينطقون؟" وقال للنمرود إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأتِ بها من المغرب إن كنت صادقاً.. والقرآن مليء بالآيات من أمثال قوله تعالى: يعقلون، يتفكرون، ينظرون.
التدبُّر والتفكُّر وسيلتان للوصول إلى حقيقة عظمى، وهي: الإبصار، غير أن التفكُّر يكون في هذا الكون الفسيح، وأهم شيء فيه هذا الإنسان، والتدبُّر يكون للقرآن، أو قل إن شئت التفكر للكتاب المنظور والتدبر للكتاب المسطور، وأما الإبصار فهو من البصيرة، وأجمل ما جاء في معنى ذلك قول ابن عطية الأندلسي رحمه الله: "البصيرة ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار.. والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به"، إذن هما عمليتان قرينتان يولِّدان للإنسان الإبصار بحيث يصبح للإنسان نور يبصر به الحقائق، ويُوصله إلى معرفة الخالق.. وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.