رسالة مغترب

بعد مدة من التيه الشبابي الذي قضت عليه أيام المراهقة، أقنعت والديّ أن الحل الوحيد هو هجرتي من موطني، وعدتهما بأنني سأتغير فور عبوري إلى الضفة الأخرى، التي لا طالما لقّبتها بجنة الحياة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/17 الساعة 04:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/17 الساعة 04:14 بتوقيت غرينتش

كلماتي هذه أرسلها لكل عاشق للطرقات البعيدة، ولكل متطفل على الأوطان، أما قبل:

أمي العزيزة.. اشتقت لرؤيتك البهيجة، ولأنفاسك الغالية، تنقصني روحك لكي أحيا، أما العيش، فأنا أعيش!

لكن لا تقلقي، فأنا بخير، كلما استيقظت صباحاً أتخيلك إلى جانبي، أستمع إلى نبرة صوتك وأجهز نفس فطورك، أدندن قليلاً وكأنكِ معي، أشرب الحليب.. وأترك القهوة لما بعد كما كنتِ تفعلين.. أنا بخير، فلا تقلقي.

أما بعد:

وكأي شاب عربي يحلم ببلاد الغربة كنت أردت الهجرة والابتعاد.. راغباً في حياة كريمة.

بعد مدة من التيه الشبابي الذي قضت عليه أيام المراهقة، أقنعت والديّ أن الحل الوحيد هو هجرتي من موطني، وعدتهما بأنني سأتغير فور عبوري إلى الضفة الأخرى، التي لا طالما لقّبتها بجنة الحياة.

لم تكن الأرض قادرة على حملي، ولا التراب الذي أمشي فوقه قادراً، تألمت جداً وأنا أظن أن وطني هو سبب كل شيء، ففشلي راجع لكوني أنتمي إليه.

أما عن تفاهتي فكنت أدمجها ضمن مقبلات الحياة، دقت ساعة الرحيل، وهاجرت، ابتعدت جداً، قسمت على عدم العودة.

في أيامي الأولى تعبت للغاية، لم أكن أملك سوى ذلك الأمل الذي جئت من أجله، وتلك القوة التي تُرغمني على الاستمرار، فأنا الذي جازف بحياته، بذكرياته ومهده من أجل حياة أفضل، لا يحق لي الاستسلام.. عملت ليلاً ونهاراً، وبدأت في إنجاز القليل مما حلمت به.. لكن ما زال هناك ضيق داخلي.. ما هو؟ لماذا؟ وكيف؟

"كان أبي يقول، : "للغربة ثمن، لا ندري ما هو"، لم أعتبر كلامه سوى خوف من ابتعادي، وأنه يريدني بجانبه إلى الأبد، أما الآن فلا أعلم حقاً أين يجب أن يتجه تفكيري، ومتى سأتوقف.. أشعر بالاشتياق الممزوج بالاكتفاء، أحتاج لحضن وطني، ولا أعلم أيضاً إن كنت أقصد الأرض التي ترعرعت فيها أم أحضان أحبائي، طبعاً، لم أتراجع عن أحلامي ومبدأ تحقيقها، لكن لا أدري ما يحدث، توجد بداخلي تناقضات ومسارات متعاكسة، وأنا أشاهد ما يقع في بلادي، أتحسر بصمت، أدرك أنه لا حول لي ولا قوة، فالوضع يرسم نفسه.

لكن ألا أخون وطني وأنا بعيد عنه كل هذا البعد؟
وما عساي أن أقول غير أنني أفتخر بأبناء وطني الذين يعانون في صمت، ومن شهدت لهم القوة والصمود الخالي من تعاريف المؤامرات والألاعيب الخارجية والداخلية.

ولا تظنوا أنه بمعانيّ قد استنكرت دور الغربة ومدى تأثيرها الإيجابي على وجودي، فلو لم أزعم الابتعاد لما علِمت أن وطني هو جزء لا يتجزأ منِّي، ولما تعلّمت الحب الذي يزهر في قلبي دون مقابل.. فأنا أحب وطني دون معرفتي، وأتساءل إن كان هو يحبني أم لا، وبعد مدة من التعود، هبت على روحي رياح العودة إلى الوراء، ونسائم الحنين إلى لحظات جميلة لم أنجح في تذكرها.

نعم.. أفهم إحساسك بالغربة وأنت داخل وطنك، لكن هل تملك يا ترى فكرة حول ما بعد هجرانه؟
إليكم تحيتي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد