صورةٌ لصراعٍ يشبه سباق شدِّ الحبل تعود جذوره إلى 3 سنوات ماضية، اندلع عبر أنحاء العالم، تاركاً وراءه جانبي الصراع مُترنِّحَين ومُصابَين بجروحٍ دون أن يُحرِّك أيٌّ منهما ساكناً. إنها إحدى الطرق التي يمكنك أن تنظر بها إلى المنافسة المُحتدِمة بين كبار مُصدِّري النفط في العالم وشركات التنقيب في الحقول الصخرية الأميركية.
خَلَّف صراعُ الهيمنةِ على سوق النفط العالمية، البالغ حجمه حوالي 97 مليون برميل يومياً، نتائج لم يتوقَّعها سوى قليل من العاملين في قطاع النفط منذ 3 سنوات، عندما كان سعر برميل النفط أكثر من 100 دولار – وهو أكثر من ضعف السعر الحالي، الذي يقترب من أدنى مستوى له منذ 12 عاماً. وبحلول موسم الصيف، ينبغي أن ترتفع أسعار البنزين والنفط، لكنها انخفضت خلال الأسبوعين الماضيين إذ لا يزال مستوى احتياطات النفط الخام والمنتجات المُعاد تكريرها مرتفعاً في الولايات المتحدة وفي بقية الدول المُنتِجة للنفط، وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
تُمسِك منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" بأحد طرفي الحبل، وتقودها السعودية التي عانت خطتها للحفاظ على سيطرتها على السوق من فشلٍ تلو الآخر بينما تكافح لمواجهة وفرة المعروض النفطي، والذي سيتجاوز بكل تأكيد أسعاره لعام آخر على الأقل.
أما الطرف الآخر من الحبل، فتُمسِك به الشركات التي تعمل بوتيرةٍ محمومةٍ للتنقيب عن احتياطات النفط الصخرية في الولايات المتحدة، خاصة في ولاية تكساس. لقد نجوا من محاولات تكتل الدول المصدرة للنفط للقضاء على أنشطة استخراج النفط الصخري، لكن عملهم يتعثَّر بسبب تدهور أسعار النفط، ما يجعل من محاولة جني أي أرباح أشبه بكفاحٍ يومي.
وأعلنت على الأقل 123 شركة عاملة في أميركا الشمالية عن إفلاسها منذ بداية عام 2015، بينما شهدت الشركات الناجية مثل "إكسون موبيل" و"شيفرون" تراجع أسعار أسهمها إلى أقل من متوسط الأسعار المعتادة عند ركود السوق، بينما لجأت هذه الشركات إلى الاقتراض للحفاظ على مستوى توزيع الأرباح على المساهمين. وخسر أكثر من 150 ألف عامل في قطاع النفط وظائفهم في الولايات المتحدة وحدها، غير أن سوق التوظيف آخذٌ في التعافي.
ويقول دانيال يرجين، مُؤرِّخ الطاقة ونائب رئيس شركة IHS Markit للاستشارات وأبحاث الطاقة: "بالنسبة لكلا الجانبين، كانت هناك عثرات في الطريق الواحدة تلو الأخرى. ولكي ترتفع الأسعار مجدداً، يجب أن تتراجع مخزونات النفط، وهناك حاجة إلى إبطاءِ وتيرةِ إنتاج النفط الصخري الأميركي. إنهما عاملان يُحدِّدَان شكل السوق في الوقت الحالي".
لكن لم يحدث أي منهما.
وشعر تجار النفط الضعفاء بالقلق هذا الأسبوع عندما صدر تقريرٌ عن وكالة الطاقة الدولية يفيد بأن المعروض النفطي العالمي قد ارتفع بمقدار 585 ألف برميل في اليوم خلال مايو/أيار الماضي، إذ رفعت الدول الأعضاء في منظمة أوبك والدول غير الأعضاء بالمنظمة من حجم إنتاجها.
وأشارت وكالة الطاقة إلى أن مخزون النفط بالدول الصناعية الـ 35 لم يتجاوز فقط المتوسط التاريخي له، بل ارتفع أيضاً عن المستوى الذي كان عليه عندما قرَّرَت منظمة أوبك خفض إنتاجها نهاية العام الماضي.
وسيرتفع حجم إنتاج النفط الأميركي، والذي بلغ في المتوسط 8.9 مليون برميل يومياً خلال العام الماضي، 2016، إلى 9.3 مليون برميل يومياً خلال العام الحالي، وفقاً لبيانات وزارة الطاقة الأميركية. وتتوقَّع الوزارة ارتفاع حجم إنتاج النفط الأميركي إلى 10 ملايين برميل في اليوم بحلول العام المقبل 2018، متجاوزاً بهذا المستوى القياسي الذي بلغه في عام 1970. وتراجع مخزون النفط الخام المحلي قليلاً خلال الأسبوع الماضي، لكن مخزون البنزين ارتفع بحوالي 2.1 مليون برميل.
ودفعت منظمة أوبك سوق النفط في هذا الاتجاه بنهاية عام 2014 عندما قرَّرَ السعوديون وحلفاؤهم تغيير سياسة التكتل إلى اتجاهٍ آخر غير مُتوقَّع. فبدلاً من خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط، مثلما كانت تفعل غالباً في الماضي، قرَّرَت منظمة أوبك إرخاءَ قيودِ السوق ورفع مستوى إنتاجها.
كان الهدف هو إحداث تراجعٍ حاد في أسعار النفط لوقتٍ قصير، ما قد يُرغِم منتجي النفط الأميركيين على الخروج من السوق ويضمن استمرار هيمنة منظمة أوبك على السوق العالمية.
وشهدت أنشطة التنقيب عن النفط الأميركي بالفعل تراجعاً حاداً، إذ أخرجت الشركات أكثر من نصف آلات الإنتاج عن الخدمة وأحجمت عن استكمال حفر الآبار التي كانت قد بدأت حفرها خلال عام 2015 وجزءٍ من العام الماضي.
غير أنَّ المنتجين الأميركيين برهنوا على قوتهم. فقد واصلوا الابتكار لإنتاج مزيدٍ من النفط بتكلفةٍ أقل عن طريق حفر آبار فرعية أعمق عبر حقول النفط الصخري. وإلى جانب جهودهم، استفادوا كذلك من انخفاض تكاليف الحفر، وأصبح الإنتاج ممكناً، جزئياً بسبب التقنيات الحديثة، بما في ذلك التقنيات الروبوتية وأجهزة الاستشعار التي تُحسِّن الكفاءة.
وبشكلٍ عام، خسرت الشركات الأموال في معظم عامي 2015 و2016، وبينما تبدأ بعض الشركات في جني أرباح مجدداً، تتعرَّض أخرى لمخاطر أن يجري الاستحواذ عليها من جانب شركاتٍ أخرى أو أن تتوقف تماماً عن العمل.
وقال فاضل غيث، أحد كبار المحللين في مؤسسة "أوبنهايمر آند كو"، وهو مصرف استثماري: "لا يُريد أي شخص إدارك أو التعامل مع حقيقة أنَّ سعر برميل النفط عندما كان يبلغ 70 و80 دولاراً قد انتهى. ويستمر منتجو النفط الصخري في خفض التكاليف، وذلك يمنحهم أمل البقاء. لكن إذا لم ترتفع أسعار النفط بشكلٍ ملحوظ عن المستوى الحالي، فإنَّ 50% من منتجي النفط الصخري سيتوقفون عن العمل".
وقد يتمثَّل الاستثناء في الشركات التي تعمل في منطقة حوض بيرميان غربي ولاية تكساس وفي ولاية نيومكسيكو بطبقاتها من الصخر الزيتي الذي يجعل الكثير من الآبار أرخص فيما يتعلق بالحفر. ويدفع بناء خطوط أنابيب النفط عبر ولاية تكساس بصادراتٍ نفطية أميركية جديدة إلى أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية.
تغيير التكتيكات
وقال بدر جعفر، رئيس شركة نفط الهلال، ومقرها الإمارات العربية المتحدة: "إنَّ الصمود غير المُتوقَّع وانتعاش إنتاج النفط الصخري الأميركي يحبطان بالفعل جهود أوبك لخفض المخزون العالمي. ويهددان حصتها السوقية في الوقت نفسه".
وقد دفع الفشل في وقف الإنتاج الأميركي أوبك إلى تغيير التكتيكات في أواخر العام الماضي وخفض الإنتاج في نهاية المطاف. والشهر الماضي، مايو/أيار، وسَّعت أوبك تخفيضاتها حتى مارس/آذار 2018. وقد نجحت في جعل روسيا وعددٍ قليلٍ من المنتجين الرئيسيين الآخرين يحذون حذوها.
وساعد المسار الجديد في استقرار السوق لبعض الوقت، ما رفع أسعار النفط، التي كانت قد انخفضت لأقل من 30 دولاراً للبرميل في بداية عام 2016، حتى وصلت إلى أكثر من 50 دولاراً للبرميل في معظم النصف الأول من عام 2017. وعند هذا الحد رفعت الكثير من شركات النفط التي تعمل في الولايات المتحدة الإنتاج وأمَّنت مبيعاتٍ حدود أسعارها الدنيا أعلى ووقت نفسها من الخسارة.
لكنَّ تخفيضات أوبك كانت إلى حدٍ ما وهمية. فقد ارتفع إنتاجها بالفعل بمقدار 290 ألف برميل يومياً في مايو/أيار 2017، ليسجل أعلى مستوى خلال العام، وذلك لأنَّ كلاً من ليبيا ونيجيريا قد أُعفيتا من التخفيضات وظلَّتا تضخان النفط إلى الأسواق العالمية.
وقد يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى خفض الإنتاج بقوة في أيٍ من البلدين في أي لحظة، لكنَّهما لا يزالان يفاجئان الأسواق بصادراتهما القوية في السوق العالمية.
وجرى، أمس الخميس، تداول أسعار النفط قرب أدنى مستوياتها في 7 أشهر، متضررة من ارتفاع المخزونات العالمية، وشكوك في قدرة "أوبك" على تنفيذ تخفيضات الإنتاج، بحسب ما ذكر تقرير لموقع روسيا اليوم.
ويُعد انخفاض أسعار النفط والبنزين جيداً للمستهلكين، لكنَّه يضر أيضاً بالقدرة التنافسية للسيارات الكهربائية النظيفة. ويمكن أن تُلحِق الضرر بآفاق الطرح العام الأولي لشركة النفط السعودية المملوكة للدولة، أرامكو، وهي خطوة محورية ضمن جهود الملك سلمان لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي.
لكن قد يحدث تطورٌ آخر في معركة الأسواق. فقد يؤدي انخفاض الأسعار إلى إجبار الشركات على خفض الإنتاج مرة أخرى. وبالفعل، بدأ بعضها يقلل من أعمال التنقيب والمشاريع الجديدة في الحقول النفطية التي يكون العمل فيها عالي التكلفة، مثل حقول الرمال النفطية الكندية.
وقال جعفر، مشيراً إلى منتجي النفط الصخري الأميركي: "يبقى أن نرى ما إذا كان الحفر قد يستمر بنفس الوتيرة عند سعرٍ أقل من 50 دولاراً مع انتهاء تغطية التحوُّطات السعرية. لكن إذا حدث ذلك، أعتقد أنَّ منتجي أوبك لن يكون لديهم خيار سوى العودة إلى الحفاظ على حصتهم في السوق مرة أخرى، الأمر الذي قد يؤدى إلى حدوث انخفاضٍ شديدٍ ومفاجئ في الأسعار. وستستمر الدورة".