عندما يصبح النَّفَسُ هواء

ومن موقعه الجديد، حاول كمريض بناء جسر بين رؤيتين للمرض والحياة والموت على ضفتي النهر؛ كونه قد خبر المكانين، وذلك بإعادة الاعتبار للكلمة كأداة فعالة للشفاء، فعندما لا يكون للمبضع مكان، لا يجد الجراح أمامه سوى الكلمة أداة فعالة للتخفيف عن المريض.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/14 الساعة 04:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/14 الساعة 04:09 بتوقيت غرينتش

كثيرون هم مَن وثقوا رحلتهم مع المرض، لكن للموضوع نكهة أخرى عندما يتعلق الأمر بطبيب خبر الحياة على ضفتي نهر المرض، وهذا ما قام به جرّاح الدماغ والأعصاب الأميركي بول كالانيثي في كتابه الذي يقطر تشويقاً وألماً: "عندما يصبح النَّفَسُ هواء" (When a Breath Becomes Air)، والذي يروي فيه يومياته مع مرض سرطان الرئة في مراحله المتأخرة.

طبيب شاب في مقتبل العمر يسير نحو المجد بتسارع، تخطب وده كبريات المراكز الطبية، ومسكون بالأسئلة الوجودية التي يرقبها يومياً في عيون وتساؤلات مرضاه، لكنه لم يتخيل يوماً أنه سيضطر إلى اختبار هذه الأسئلة على نفسه؛ ليتحول في لحظة فاصلة، أعقبت تصفّحه شاشة الكمبيوتر بين مقاطع صور الأشعة التي تخصه، من "مُراقِب إلى مُرَاقَب"، وأنه سيخلع معطفه الأبيض؛ ليستعيض عنه بآخر طالما شاهده على مرضاه، وكأنه بخلع معطفه كطبيب يكون قد خلع عنه هويته أيضاً ليكتسب أخرى جديدة، فالمرض يفرض علينا تغييرات جوهرية في مسار حياتنا، تضطرنا إلى إعادة النظر في أولوياتنا.

وكدأب معظم الأطباء، قام د. كالانيثي بتأجيل تعلم كيفية الحياة والاستمتاع بها إلى حين إنهاء تدريبه، لكنه في اللحظة التي أصبح فيها مستعداً للوقوف على أعتاب الحياة التي كان يحلم بها، وجد نفسه مكرهاً على تعلم كيف يبدأ بالانسحاب من الحياة لمواجهة الموت!

ومن موقعه الجديد، بدأ ينظر إلى الأسئلة الوجودية المتعلقة بالحياة والموت والمرض والصحة من زاوية لم يختبرها من قبل، ويناقش جدلية العلاقة بين الطبيب والمريض، كونها أبعد من مجرد عملية صماء لعلاج المرض أو بعض أعراضه؛ فواجب الطبيب لا يكمن في درء الموت أو في إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل المرض، وإنما في احتضان المرضى وأهليهم، ومساعدتهم على إيجاد معنى جديد لوجودهم يساعدهم على تخطي هذه المرحلة الحرجة من حياتهم.

تفاجأ بول بالموت منذ التقاه أول مرة عندما كان طالباً في كلية الطب، واضطر للتعامل مع أجساد الموتى كجزء من متطلبات مادة التشريح، وقد صدمه حينها تخدّر المشاعر الذي اكتسبه وزملاؤه بمرور الوقت، ومن طريقة تعاملهم مع هذه الجثث البائسة كمادة لا قيمة لها، عندما نزعوا عنها إنسانيتها وتعاملوا معها بحيادية باردة.

ومن موقعه الجديد، حاول كمريض بناء جسر بين رؤيتين للمرض والحياة والموت على ضفتي النهر؛ كونه قد خبر المكانين، وذلك بإعادة الاعتبار للكلمة كأداة فعالة للشفاء، فعندما لا يكون للمبضع مكان، لا يجد الجراح أمامه سوى الكلمة أداة فعالة للتخفيف عن المريض.

عبر الكاتب عن أحاسيسه وآلامه وانفعالاته خلال رحلته مع المرض، وهو يرقب أحلامه المتبخرة تهوي أمام ناظريه، ومستقبله الذي صار يتسرب من بين يديه بإنسانية بعيدة عن البطولات الزائفة أو الأمنيات الخيالية، فقبل أن يكون طبيباً، هو إنسان من لحم ودم وحواس، وصف لنا حاله في ساعات ضعفه وقوته، وإصراره على المحاربة واستسلامه.

ويبرز موضوع الوجود مرة أخرى جلياً عندما يقف الكاتب عند مفترق طرق؛ خيار إنجاب طفل يعلم تماماً أنه سيخلّفه وراءه؛ ليكون القرار بالإنجاب في التقاء جديد بين الحياة والموت، وانبعاث حياة جديدة من رحم أخرى آيلة للغروب.

كثيرون كتبوا عن ثنائية الحياة والموت، لكن ما يميز هذا الكتاب أنه يأتي من شخص خبر ثنائية العيش كطبيب ومريض؛ لتكون رسالته الأخيرة أن نحاول أن نجعل لحياتنا معنى ما دمنا نمتلكها.

استغل الدكتور كالانيثي ما سمح له به المرض من وقت مستقطع لمحاولة إتمام مذكراته؛ يغالب الهواء للحصول على دفقة يحولها إلى نَفَس، إلا أن الموت لم يسعفه في إنجازها؛ لتتولى زوجته مهمة إسدال الستار على مشهد الختام.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد