شهر رمضان الذي نعرفه هو ذاك الشهر الذي لو كان حجراً لسميته هُبل من شدة سقمه وثقله على المجتمع، عبء مادي على عائلِي الأسر، يبدأون الادخار له قبل هلاله بثلاثة أشهر أو ربما أكثر، وربح لشياطين الإنس الذين يتغذون على مص الروحانيات من البشر، فيعدون أنفسهم على مدار عام كامل لينطلقوا في أول أيام رمضان بعرض أولى حلقات مسلسلاتهم وبرامجهم وفوازيرهم ومقالبهم! وعلة لمن يشتهون الشجار والاعتراك والاشتباك مع البشر،
فما هذا الكم من القبح الذي أصبحت تحمله طقوس شهر رمضان في معتقدات مجتمعنا؟! كل عام كنت أمنع نفسي عن التعليق على طقوسه أملاً في أن يتغير الوضع البائس في العام القادم، ولكن يبدو أن لا تغيير سوى بالمواجهة والنقد وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل هذا الغيم الملعون.
هذه العادات السيئة التي اقتحمت شهرنا المبارك وأخرجته من إطاره الصحيح وجعلت منه فرصةً جيدة لدى البعض للسمر الليلي، وأخرى لدى آخرين للتكاسل عن العمل بحجة الصيام، وأخرى لدى آخرين لضياع الوقت من عمرهم، ما أنزل الله بها من سلطان، وما كان لها من عرفان، وإنما هي عادات دخيلة علينا، أفسدت عقيدتنا، وكدرت صفو حياتنا، وأظلمت طريقنا، فتباً لمن أضاء إلهه طريقه وأظلمه شيطانه!
أما عن شهر رمضان الذي لا نعرفه فهو ركن من أركان الإسلام، وحينما علّله ذو الجلال والإكرام في القرآن الكريم قال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، والتقوى هي أن تتقرب إلى الله، فأصل الدين هنا هو الارتقاء بنفسك داخل الإطار الديني الذي حدده لك الله في هذا الباب (التقوى إلى الله بصيامك)، وهنا يكمن خلل إدراكي عضال في الجهل بتعاليم الدين،
مما يجعل المرء يقوم بممارسة أفعال وطقوس من دون أن يعلم تتناقض تماماً مع جوهر الفرض الإلهي في هذه الحالة الذي هو وببساطة شديدة أن تصوم لمدة شهر عن الشهوات وتناول اللذات، وتعوضها بالتقرب إلى الله، وتكون قد شعرت في خلال هذا الشهر بما يعانيه الفقراء والمساكين على مدار العام، وبالطبع في نهايته تكون وفرت مبلغاً من المال لا بأس به نتيجة عدم إنفاقك على شهواتك في هذا الشهر كباقي شهور العام، فتذهب وتعطي ما وفرته للفقراء والمساكين، وبهذا يكون منحك الله -سبحانه تعالى- فرصة عظيمة لقهر النفس وتهذيبها وضبطها وتمرين إرادة قوي على التحكم بالشهوات والتوقف عنها حينما أردت، والارتقاء بمستوى أخلاقك على الجانب الإنساني،
فبهذه الطريقة قد علمك الله كيف تشعر بالبشر من حولك، وتسعى لمساعدتهم، وتسارع في تخفيف آلامهم، فتوفر من قوتك وتعطي لهم، انظر كيف يصنع منك الله إنساناً رفيعاً في أخلاقه وراشداً في سلوكه، وكيف يحاول أن يصنع منك أصحاب الأفكار السامة كائناً لا يختلف كثيراً عن الحيوانات في أفعاله وسلوكه، لا يشعر بأحد، يدهس أقرب الأقربين إليه مقابل توفير وجبة غذاء، ويلهث وراء شهواته: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)، وبعد أن قارنت الآن بنفسك بين ما يريده الله لك وما يريده الغاوون لك عليك أن تختار بأي أرض تكون.
هذه الثقافة المذكورة أعلاه لا يمكن أن تنتشر في مجتمع به أُم تقف من الصباح إلى المساء في نهار رمضان تُعد في مائدة إفطار فاحشة استعداداً لأذان المغرب، وكأن هذه هي آخر مرة سيتناول فيها أهل بيتها الطعام، ولا مجتمع به أب عائل أسرة يسيء استخدام موارده ثم يعود ويشكو تعثر حاله المعيشي، ولا مجتمع به داعية إسلامي يبتعد تماماً عن جوهر الصيام، ويكتفي فقط بالحديث عن الشروط والضوابط والأجر إذا صح الصيام والعقاب للمخالف، ولا مجتمع يقوده إعلام يتبنى أفكاراً نقيضة لتعاليم وأسس العقيدة، فصيام رمضان ليس معناه اعتزال الحياة، وإنما معناه التعلّم كيف تكون الحياة.
مجتمعنا العربي سقط في وحل التوهان بين الطقوس والعادات الاجتماعية وبين المفاهيم الدينية بصحيحها، فعجز عن رسم منحنى الحياة بداخله، وافتقد أدوات السيطرة على الأمور، فعلى الجميع أن يعود مرة أخرى إلى المرجعية الثابتة والصحيحة للدين وفرضها على الأرض عوضاً عن العادات والتقاليد والطقوس، وكل هذه الثقافات الدخيلة على مجتمعنا، لضمان عودة الحياة المنهجية مرة أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.