اسمه السيد، اسم لطيف من خمسة أحرف، يحمله ما يقارب الثلاثين في المائة من الشعب المصري؛ لما يرتبط في أذهان الجميع من معنى يشير إلى السيادة، التي يفتقدها العامة.
كان من الممكن أن يحمل بالفعل نزراً ولو يسيراً، من هذه الصفات، مع الثراء الفاحش الذي كانت تحيا به عائلته، مع النفوذ العظيم لجده الباشا، لولا تلك الصفة التي لازمت اسمه على مدار سنوات عمره الخمس والعشرين، وربما قبل ذلك أيضاً، نحس.
وقبل أن نخوض في سيرة هذا الشاب، ينبغي أن نعلم أنه من أصول تركية، بعد أن قدم والدا جده توفيق من إسطنبول ليقيم في القاهرة. وكبر توفيق، وعمل بالمقاولات والتجارة، واستطاع بمهارة يحسد عليها أن يكون ثروة ضخمة، مكّنته من شراء آلاف الأفدنة، وكسب ثقة الملك فؤاد الأول، لينعم عليه بلقب "باشا".
تزوج توفيق أربع نساء، وعاشر بالفعل أضعاف هذا الرقم، غير أن القدر لم يمنحه الفرصة؛ لأن يكون أباً إلا بعد أن قارب الأربعين من عمره، إثر ليلة ساخنة حمراء، قضاها في أحضان جارية سودانية، أهداها له صديقه الأمير محمد شركس، وهو يهنئه على خلاصه من قيد الزوجية، بعد أن طلق نساءه الأربع دفعةً واحدة.
في تلك الليلة المطيرة الرعدية، بهره ذلك الجمال الأبنوسي الأسود، الذي انعكست فوقه أنوار البرق، وآثار شهوة التذوق لديه رغبة في التغيير ليس إلا، دون أن يدرك أن ثمرة هذا التغيير سيكون أحمد ولده الوحيد.
ويوم أن ولدت "حسنة" -وهو اسم الجارية- طفلها من توفيق، اتخذ قراره بإبعادها عن ولده، حتى لا يلاحقه العار بين أقرانه الأثرياء مدى الحياة، ولكنه لم يكن يدري أن أم ولده الوحيد، سبق أن تلقت فنون السحر على يدَي عراف عجوز في أحراش السودان بالقرب من "عطبرة".
ورث أحمد عن أمه سمرة لطيفة مستحبة، امتزجت بدمائه التركية، وعيونه الخضراء، لتنتج شاباً في قمة الوسامة، تزوج بسرعة ابنة إحدى العائلات الثرية، رشحها له والده، متمنياً أن يصبح جداً لأحفاد كثر، يعوض منهم ما حرم منه في أبوته، ولكن في ذلك اليوم الكئيب الذي بلغه خبر حمل زوجة ابنه، بلغه كذلك خبر آخر قلب كل موازين حياته.
كان أحمد وقتها في مشتل الورد، الذي يقع على بعد أربعة أفدنة من قصر والده، يتجول بحصانه الأسود بين الفلاحين، يتابع عملهم من أجل إنتاج أنواع عطرية مميزة من الورد البلدي عندما وصله الخبر.
طباخ القصر الذي شهد مراحل نمو هذا الشاب، أعطته السعادة قوة مكنته من الجري حتى مشتل الورد ليبشر ولده وسيده بخبر قدوم أول أبنائه.
وفي فرحة عارمة، جذب الشاب عنان فرسه العربي، فانطلق الحصان ينهب الأرض، شعر أحمد أنه يحلق في الفضاء، ينافس الحمائم والعصافير، حتى هوت قدم حصانه في قناة مائية فانزلق الحصان أرضاً، وسقط الأب المنتظر عمودياً على رأسه؛ ليتحطم عنقه ويفقد حياته.
وعاد الطباخ العجوز إلى القصر الذي خرج منه رسولاً للبشرى، يحمل على كتفيه جثة ذلك الأب الذي ضاع عمره فرحة بقدوم أول أولاده، وتحول الطفل المنتظر إلى قبلة الأنظار، وبقيت أمه في بؤرة الاهتمام، خاصة من الجد المكلوم – توفيق – الذي فقد ولده الوحيد يوم بُشر بقدوم الحفيد.
مرت الأشهر التسعة في هدوء، ومع بداية نسمات الشتاء الباردة، ارتفع في القصر صراخ الأرملة الشابة، تصرخ ألماً، وعذاباً من المخاض الذي هاجمها في اليوم الثالث عشر من شهر مارس/آذار.
أحضر توفيق لها صديقه الطبيب، وقطع ردهة قصره ذهاباً وإياباً أكثر من ثلاثين مرة، وهو يدعو إلهه، الذي لم يذكره إلا يوم وفاة ولده، أن يكون حفيده ذكراً، ونذر على نفسه لله، إن هو أجاب دعاه؛ ليطلقن على هذا المولود اسم السيد، تيمناً وتبركاً باسم السيد البدوي.
خطوات سريعة مرتبكة، سمعها تهبط درجات السلم، فالتفت ليجد الطباخ العجوز جعفر، وهو يدخل المطبخ صارخاً، يطلب للطبيب ماء ساخناً. لحظات من الصمت دوّت في أركان المنزل، تردد بعدها صوت انفجار عنيف، وصراخ مرعب انطلق من المطبخ. دخل الباشا ليستطلع الأمر فوجد، اللهب يشوي جسد جعفر العجوز، بعد أن انفجر موقد الكيروسين في وجهه.
تجمع الخدم حوله، ونجحوا في إطفاء اللهب، بعد أن خمدت أنفاس المحترق، ودوى السكون بعدها للحظات، مزقه صوت بكاء الطفل الوليد؛ لتبرز في الأذهان فكرة واحدة، عجز الجميع عن النطق بها أمام الكهل المصدوم.
تنامت الفكرة مع الزمن، غذتها الأحداث، وكل مَن في القصر خائف من الإفصاح عنها لسيده، ففي اليوم الثالث عشر لولادة الطفل السيد، أصيبت والدته الشابة بحمى النفاس، رغم تأكيدات الطبيب أن صحتها جيدة، وتزايدت درجة حرارتها بسرعة، حتى إن الكمادات الباردة التي كانت تصنعها لها خادمتها لم تعد تصلح لخفض الحرارة، ذات ليلة التهب جسد الأم الصغيرة بالحمى، وبقيت خادمتها بجوارها، حتى وصلت إلى أنفها رائحة حريق.
ذعرت الخادمة، وانطلقت تستطلع الأمر، لم يمكن بالقصر أحد، أخذت تبحث عن الجميع، فوجدتهم في إسطبلات الخيل، يحاولون إطفاء النيران، صراع قاس مرير، خاضه الخدم وساسة الخيل، صراع سيادة وبقاء، كانت النار تبحث عن الحياة والسيطرة، ويبحث الرجال أيضاً عن الحياة والسيطرة، ودام الصراع لساعتين كاملتين، حتى انتصرت أذرع الرجال، وخمدت أنفاس النيران إلى الأبد.
وعندما صعدت الخادمة إلى غرفة سيدتها، صدمها المشهد، كان الطفل السيد يرقد على صدر أمه يرضع لبنها، وهو لا يدري أنها فارقت الحياة بعد أن أخرجت ثديها الأيسر ترضعه لآخر مرة في حياتها، وعندها أطلقت الخادمة على الطفل ذلك الاسم الأبدي، الذي لازمه مدى حياته، نحس.
من يومها أصبح اسمه السيد نحس، حتى هذه الخادمة لقيت ربها بعد ثلاثة عشر يوماً أخرى، عندما ذهبت بالغداء لسايس الإسطبلات، فركلها أحد الجياد ركلة حطمت أضلع صدرها.
وكبر النحس مع السيد، وازداد تأثيره يوماً بعد يوم إلى أن قرر جده إدخاله المدرسة.
وفي أول أيام الدراسة، انفجرت ماسورة المياه لتغرق حديقة المدرسة، وسقط مديرها من فوق السلم، الذي تحطم درابزينه تحت وزنه الجبار، وأصيبت مدرسة الفصل بكسر في عظام فخذها اليمنى، بعد أن تعثرت قدمها في حقيبته الدراسية، وعلى الفور ربط الجميع بين ما حدث في أول يوم، والشائعات التي تتردد عن النحس الذي يلازم الطفل السيد، فطلبوا من جده إخراجه من المدرسة، حفاظاً على أرواح التلاميذ الآخرين.
وكبر السيد وحيداً معزولاً، بعيداً عن المرح الطفولي، وعبث الشباب وشقاوته، ورغم الثروة الهائلة التي ورثها عن جده توفيق، فإن القصر خلا عليه وحده. بعد أن تركه كل الخدم خوفاً على حياتهم، ورفضته كل بنات العائلات عندما تقدم للزواج منهن، عندها قرر الانتقال إلى مدينة كبيرة لا يعرفه فيها أحد، لم يفكر كثيراً في هذا الأمر، واتخذ قراره بالرحيل إلى الإسكندرية؛ ليختلط بناسها وزحامها، علَّه ينسى وحدته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.