ما لكم كيف تحكمون؟!

أيّاً كانت المبررات أو الأسباب، رجائي لكَ إن كنت تلميذاً ممّن يحملون الفكر القويم، لا تحارب حليفك في إحياء هذا الفكر، وإلا بتَّ وإياه في ساحة معركة ذل وعار، تهدمان ما بنى أسلافكما، بعد أن تعاهدنا معاً على أنْ نحمل راية الخير ما حيينا، وراية الخير ليست حكراً على أحد، ليستْ لك ولا لي، ولا لتلك المنظمة ولا لذاك الحزب.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/10 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/10 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش

تحت ظلِّ شجرة كبيرة كنتُ أتفيَّأ أنا وأختي، عن يميني برزتْ زهرةُ أقحوان جميلة، وعن يمين أختي زهرةُ نرجس بديعة، أُعجبنا بكلتا الزهرتين، ولكنني فضلت الأقحوان عكس أختي، تجادلنا حول الجمال ومعاييره، قدَّمنا الحجج وأدمغنا بالبراهين، إلى أنْ افترقنا بقلوبٍ متخاصمة، رافضين الاعتراف بأن كلتا الزهرتين جميل!

من سنن الحياة أن يصارع الخير الشر (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)، والأقوى من ذلك مصارعة الشرِّ للشر، ففي ذلك اجتثاث للشر من داخله بعيداً عن أي خسائر خارجية، أمَّا مصارعة الخير للخير ما هي إلا سنةٌ من سنن هلاك الأقوام وفسادها ونبتةٌ خبيثة لا بُدَّ من اقتلاعها.

فكيف لي أنا وأختي أن نتخاصم من أجل جمالين، طالما نستطيع الاستمتاع بالاثنين معاً؟ كيف لكيانين منفصلين شكليّاً متحدين فكريّاً أن يتنافرا؟ إن كان هدف زهرتي الأقحوان والنرجس نشرُ العبير في الأرجاء، فلماذا إذاً ينتزعان جذور بعضهما البعض؟ ألم تُفَكرا في أن انتشال إحداهما من منبتها سيهدم حجراً كان يدعمها في تحقيق هدفها؟ ألم تُوقنا بألا فراغ يبقى فراغاً إلى الأبد، وأن تلاشي شيءٍ من عبيرهما يعني ملء الفراغ الحاصل بشرِّ مرير؟

في عالم يمْكنُ القَطْعُ بأنَّه عالم غاب، بات كل خير طوقَ نجاة، وكل فكر قويم عملةً نادرة على الفرد التشبث بها أيّاً كانت الوسيلة، وإن لم يتشبث بها فليدعمها بالطرق السرية أو الجهرية كافّة، المهم أن تدفع الخيرَ خطوة إلى الأمام ليدفعك ميلاً، ومعظم الخير في زمننا يُصنَّفُ ويُؤطَّر بكيانات وأنظمة وجماعات وأحزاب وأجسام شئنا أم أبينا، ومسيرة الأفراد في تبنيهم لفكر ما تمر بما يلي:

اتباع الفكرة وهي مرحلة المخاض، ثم العمل من أجل الفكرة وهي مرحلة الولادة، ثم عبادة الإطار وتلاشي الفكرة وهي مرحلة الموت، يتذكرون ساق الزهرة وبتلاتها وامتشاق قامتها وعلُوَّ هامتها، وينسَوْن العبير الذي نمت الزهرة من أجله، يفدون الإطار بأرواحهم وإن سألتهم عن فلسفته جهلوا، قدَّسوا الأجسام وصلُّوا من أجلها، فلا بقيت الزهرة ولا بقي عبيرُها.

وهنا تتعد الأسباب، والمبررات كثيرة، فللأسف نرى كثيراً من العقول النيِّرة صاحبة الفكر الفذّ لا تورثه، وتحتكر العلم ولا تنشره، ثم تموت وفكرها يتلاشى معها بعد فترة، صحيحٌ أنَّ الفكر لا يموت، هذا إن وُرِّث، أمّا إنْ بقي في عقل صاحبه في صندوق محكم الإغلاق فلن يلقى مصيراً سوى الموت، أدرك العلماء قديماً أهميّة توريث الفكر، ولذلك كانوا لا يتركون تلاميذهم ساعةً من ليل، أمَّا اليوم فلا معلمين إلا ما ندر.

وبالطبع، لا ننسى العيب الآخر (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، فلا تلاميذ فكر أيضاً إلا ما ندر، فترى الخلف يحاولون لملمة ما تبقى من الفكر المتناثر هنا وهناك، ثم يبعثرونه بعشوائية تحركاتهم، وبالانغلاق على أنفسهم، وبتجميد ما حفظوه بعيداً عن أي تجديد، فيَضِلُّون السبيل من جديد.

أيّاً كانت المبررات أو الأسباب، رجائي لكَ إن كنت تلميذاً ممّن يحملون الفكر القويم، لا تحارب حليفك في إحياء هذا الفكر، وإلا بتَّ وإياه في ساحة معركة ذل وعار، تهدمان ما بنى أسلافكما، بعد أن تعاهدنا معاً على أنْ نحمل راية الخير ما حيينا، وراية الخير ليست حكراً على أحد، ليستْ لك ولا لي، ولا لتلك المنظمة ولا لذاك الحزب.

واعذرني -يا أخي- إن لم أكنْ عضواً في الجسد الذي تنتمي إليه، فيكفي أنني عضو في جسد آخر يحمل الفكر النيِّر ذاته، فلا تخوّني إن انضممتُ إلى غيرك، ولا تعتبرني هادماً لكيانك، وباغياً إقامة الحرب ضدك، كل ما أريده هو نشر الخير من المنبر الذي أراه مناسباً، ولنأخذ الأمر بإيجابية، انتشار الفكر الواحد في كيانات متعددة يساعد على انتشاره بين الناس، فإن لم تعجبهم منظومتي فإلى منظومتك هم سائرون، وسأكون سعيدة لأنَّهم سكنوا مسكن خير أيّاً كان مدخله، بابي أم بابك، فالمقصد ليس بالأنا؛ بل بما نبتغي أن تحققه الأنا.

أمّا الأوان فقد آن يا أختي لتتصافى القلوب، آن الأوان لنكون خير خلَف لخير سلف، فما زال ظل الشجرة ينتظرنا، وها هي زهرة ثالثة تولد من بين براثن الركام، فمن يَجبرُ قلوبَنا إن بترنا العبير الفوّاح؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد