تلك المرأة التي أدهشتني (قصة واقعية)

قلت لها: لقد كنت سعيدة جداً بالأمس عندما رأيتك تقرئين بعيداً عن أي إزعاج. قالت بلغة إنكليزية جيدة: أقرأ لأحمي نفسي من الجنون - وأشارت لرأسها - ثم أكملت: لديَّ الكثير من الوقت وأعيش بمفردي هنا وإذا لم أقرأ سيتجمد عقلي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/10 الساعة 04:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/10 الساعة 04:42 بتوقيت غرينتش

كان عملها في الجامعة، في مكان العمل والتعلم، كانت وظيفتها التنظيف، وبالأخص تنظيف "الحمامات".

في يوم من أيامي التي ظننته عادياً وجدتها تجلس خلف باب الحمام في زاوية صنعتها بنفسها؛ حيث رتبت الكراتين وقطع الأقمشة وحقيبتها الكبيرة على آخر الزاوية، واضعة مسنداً خلف ظهرها، وآخر فوق ركبتيها لتسند به كتاباً.. نعم كتاب.. كانت تقرأ بنهم.

نظرت لها نظرة مليئة بالدهشة والسعادة، منذ فترة طويلة لم أندهش كما اندهشت لحظتها.. اندهشت، فرحت وحزنت بنفس الوقت.

كانت تجلس بكل أناقة وشباب رافعة ركبتيها رغم جلوسها قريبة جداً من الأرض وبين يديها كتاب عدد صفحاته ليست بالقليلة أبداً.

كانت لا تأبه بالداخل والخارج، كانت تأخذ راحتها بعد ساعات طويلة من العمل بطريقتها الخاصة. خرجت يومها وأنا سعيدة وحزينة بنفس الوقت ولم أعرف السبب ساعتها، كانت مشاعري مختلطة، ذهبت إلى أشغالي وبعد ساعتين تقريباً قررت العودة لعلي أجدها وأفتح معها حديثاً يخبرني مَن هي ولماذا هي هنا؛ لأستفيد من تجربتها الإنسانية، وأزيد من خبرتي الإنسانية وبعض الفهم المعاكس للحياة، أطور عاطفتي وروحي كذلك، ذهبت بِنيّة أن أراها وأتحدث معها لكني لم أجدها، شعرت بالخيبة، لكني قررت أن أعيد الكرّة في اليوم التالي.

في اليوم التالي.. كنت لا أزال أفكر بتلك المرأة التي كانت تحمل كتاباً خلف باب حمام دون أن تكترث بأحد ودون أن تكترث بهامشية المكان أيضاً.

في ذلك اليوم دخلت إلى الحمام فوجدتها بنفس جلستها تكمل قراءة ذلك الكتاب الذي رأيتها تحمله منذ يومين، لم أستطِع ألا أقاطع قراءتها دون أشعر وكلمتها بلغة بين العربية والإنكليزية لنتواصل بشكل جيد.

قلت لها: لقد كنت سعيدة جداً بالأمس عندما رأيتك تقرئين بعيداً عن أي إزعاج. قالت بلغة إنكليزية جيدة: أقرأ لأحمي نفسي من الجنون – وأشارت لرأسها – ثم أكملت: لديَّ الكثير من الوقت وأعيش بمفردي هنا وإذا لم أقرأ سيتجمد عقلي.

خلال حديثها كنت صامتة مندهشة برجاحة عقلها لكن بنفس الوقت كنت سعيدة بهذه المرأة التي تتحدث بكل قوة وثقة والسر أنها قارئة.

فالقارئات عادة يقظات متفتحات العقل.. يعبرن عن آرائهن بوضوح وحدة أحياناً، ثم سألتها: ماذا تقرئين؟ قلبت الكتاب وأجابت أنها تقرأ قصة حياة شخصية مشهورة في بلدها، شخصية إثيوبية قيادية، قالت: أرى في هذا الكتاب قصة حياة هذا الرجل المليئة بالتحديات والفقر والمشاكل والآلام والإنجازات والبطولات، هذه القصة وهذا الكتاب وهذه المواقف المذكورة فيه تساعدني كثيراً لاستمرار صبري على طبيعة الحياة.

وبعد أن تحدثت قليلاً عن هذا الكتاب، طلبت منها أخذ صورة معها، فرفضت ثم قالت: لماذا؟ قلت لها: أريد أن أكتب عنك شيئاً، قالت: اكتبي ولكن ليس هناك ضرورة لوضع صورتي، ثم سألتني: ما اسمك؟ فأجبت، وسألتها عن اسمها وتحدثنا قليلاً عن عائلتها وعملها السابق والحالي؛ حيث كانت تعمل في دولة عربية قبل أن تأتي للكويت، وهي تتقن التواصل بالعربية والإنكليزية.

لا أنكر أنني حزنت؛ لأن امرأة مثل هذه المرأة المليئة بالقوة والحياة تجلس خلف باب الحمام، وآخرين يجلسون خلف مكاتب لا يعرفون كيف يتحدثون أو يفكرون أو حتى يقاوموا الجهل مهما كان محيطاً بهم، وفي حياتهم كلها لم يعانقوا كتاباً يجعلهم أكثر جمالاً، لكني قاطعت نفسي وفكرتي الحزينة التي ساورتني، وقلت: امرأة مثل هذه تتسلح بالقراءة رغم أنف الظروف، ظروف الفقر وظروف الضغوط وكل شيء، امرأة رفضت نظرة شفقة ممن حولها بأن تشغل وقتها هكذا، هي امرأة ستعرف طريقاً جدياً جميلاً للحياة يوماً ما وتصبح قصتها قصة نجاح وكفاح تروى، ستصبح ناشطة، ثائرة، قيادية، ستغير قدرها بيدها، لماذا؟ لأنها ملكت المفتاح، مفتاح المقاومة.. "المعرفة" وبدأت بأن تقرأ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد