الارتقاء هو مصطلح شامل لا يمكن حصره في جانب دون آخر. إلا أنه في الأساس يمثل عملية انتقال من مرحلة أو مستوى إلى آخر أفضل. فالارتقاء هو عملية حركية تسعى لتحقيق هدف معين. إذاً لكي تتحقق عملية الارتقاء توجد الحاجة إلى عاملين مهمين: القدرة والرغبة.
القوة وحدها لا تكفي؛ لكي تتحول إلى القدرة على الفعل والتأثير، ولهذا القصد ينبغي توفر عامل الإرادة في الانتقال إلى مستوى أفضل من الوضع القائم.
وهنا، تحتاج هذه العملية لكي تكتمل إلى عامل ثالث وهو التخطيط الاستراتيجي لغرض توظيف مقومات القوة المادية والمعنوية والعمل على تعزيزها.
في جملة الإطار التفاعلي لهذه العملية لا بد من وجود قوة تنظم التفاعل، تحدد الأهداف و توظف المقومات.
تتمثل هذه القوة في السلطة التي يجب أن تكون شرعية قادرة على ضمان وجود إطار تفاعلي عادل ومستقر بين الأطراف المتفاعلة، سواء كانوا أفراداً أو جماعات مجتمعية كما يسميها جون رولز.
فعملية الارتقاء ترتبط بصورة مباشرة بالقدرة على تنظيم العلاقة بين الأدوار الاجتماعية والسياسية بين الأفراد والسلطة.
لأن هذه العلاقة ستعطي للدور الاجتماعي بُعداً آخر هو جملة المهام والواجبات والحقوق، وهو يمثل السلوك المرتجى من الفرد في موقف اجتماعي أو مؤسسي معين.
فواجبات الدور هي مجموعة التصرفات والالتزامات التي يقوم بها لاعب الدور الاجتماعي أثناء علاقته مع الآخرين في التفاعل المجتمعي.
وحقوق الدور هي الامتيازات والمكافآت التي تقدم للاعب الدور بعد قيامه بالواجبات المتوقعة منه. وهنا يؤكد مختصو علم الاجتماع السياسي أن البيئة الاجتماعية تحدد جملة من الالتزامات والضوابط، التي بموجبها يتم تحديد إطار حدود الدور للأفراد في مواقع اجتماعية – سياسية معينة؛ إذ على الفرد أن يدرك أن قيامه بمهام دور ما في المجتمع ما هو إلا حلقة ضمن سلاسل من الحلقات المتداخلة، وأن المسؤولية تكون مشتركة بين كل حلقة من هذه الحلقات مع اختلاف حجمها وقدرتها على التأثير.
إهمال حلقة ما قد يؤدي إلى التفريط بوحدة السلسلة وإعاقة عمل الحلقات الأخرى. وتقع المسؤولية هنا على فاعلين: الأول سلطة النظام السياسي بجميع تشكيلاته ومؤسساته والذي يجب أن يحرص على محاسبة ومعاقبة كل من يخفق في مهامه أو يهمل في أدائه لالتزاماته ضمن حلقته الاجتماعية الفاعل فيها.
الفاعل الثاني هو الفرد، المسؤولية على الفرد لا تقل أهمية عن نظيرتها التي تتكفل بها السلطة، فالشرعية هي الأساس الذي يتيح للسلطة القيام بدور "منظم التفاعل" الداعي إلى الارتقاء بالوضع المجتمعي والسياسي العام.
ونعني بالشرعية الالتزام بالسبل الديمقراطية الدستورية في اختيار ممثلي الشعب من جهة، التي تحدد عمل السلطة وعلاقتها بالفرد والمجتمع من جهة أخرى.
ومن خلال هذه العملية الديمقراطية فإن المسؤولية الأولى تقع على الفرد الذي بدوره سينتخب الأفراد الذين سيديرون أدواراً رئيسية في السلطة، والذين سيتحملون عبء بناء منظومة عادلة للتفاعل المجتمعي. وهذه السلطة بدورها يجب أن تحرص على تعزيز ثقافة الفرد العامة منها، والسياسية تحديداً؛ احتراماً منها لحجم المسؤولية الواقعة عليها من أجل ضمان تفاعل سلمي إيجابي في المنظومة المجتمعية. فعملية الارتقاء وإن كانت منوطة بالسلطة، إلا أنها بالأساس تناط بمجموعة من الأفراد الذين يجب أن يتحلوا بصفات ومؤهلات معينة تؤهلهم للقيام بدور معين وفقاً لموقعهم ضمن البيئة العامة للتفاعل.
وارتقاؤهم في أدائهم لمهامهم لا يتم إلا من خلال: أولاً عملية اختيار دقيقة تضع في الحسبان الكفاءة في المقام الأول، ثانياً نتيجة لاحترام الأفراد المعنيين للإطار القانوني الذي يؤطر حدود سلطتهم ومسؤولياتهم، ثالثاً تغليب المصلحة العامة في السلوك العام والمؤسسي لهؤلاء الأفراد، رابعاً الالتزام بالمثل الأخلاقية وقيم النزاهة والأمانة. لذلك تقع على كاهل السلطة مهمة تعزيز مهارات الأفراد كما عليها أن تضمن حقوقهم كافة على قدر من المساواة مع احترام التفاوت في القدرات والمهارات التي تتيح للفرد ذاته فرصة الوصول إلى موقع مجتمعي دون غيره.
بالمقابل يحرص الفرد على اختيار أفراد صالحين معتدلين قادرين على خلق بيئة عادلة-مستقرة والعمل على ديمومتها.
من خلال هذه المعادلة، فإن الفرد شريك في عملية الإخفاق إن وقعت في الأداء العام للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية.
فالفرد الكفء يعد أهم ركن من أركان الارتقاء، الذي يجب أن يضع خطة استراتيجية مرنة توظف الإمكانيات المتاحة. فالانتخاب على أساس الانتماء المذهبي أو القومي لن يتيح الفرصة للأكفاء من تولي المواقع المهمة في منظومة الإدارة العامة لشؤون الدولة وبكل مفاصلها؛ لأن من سيصل على هذا الأساس سيختار شركاءه على المنطق ذاته في إدارة المواقع الأخرى ضمن الحلقات المجتمعية والسياسية المختلفة، وبالضرورة فإن هذا الأمر سيؤدي إلى تراجع في الأداء العام، وفشل في محاكاة ظروف الواقع.
المتضرر الأكبر هي البيئة المجتمعية التي قد تعاني من اضطرابات كبيرة بسبب غياب العدالة الاجتماعية من جهة، وغياب المقومات الضرورية لإدامة عملية التطور في الحياة العامة للفرد.
ومن هذا الواقع سيتأثر الفرد بصورة كبيرة على المستوى المادي والمعنوي، وستشرع ثقافة المجتمع في الانحدار، وتبدأ المكونات المجتمعية في الانغلاق على ذاتها.
لتفادي هذه المشكلة علينا البحث عن الفرد العراقي من جديد، والعمل على تطوير مهاراته المتنوعة بما يعزز استقلاله الاقتصادي، وقدرته على الوصول لجميع حقوقه دون تمييز، الأمر الذي يخلق بيئة اجتماعية إيجابية تحفز على التعاون والإبداع.
تعزيز المهارات وفتح آفاق القطاع الخاص سيعزز من هامش الإبداع وسيتيح للفرد القدرة على تنظيم نفسه ضمن نشاط المجتمع المدني دون الحاجة للاعتماد على السلطة بصورة مباشرة.
تقليل اعتمادية الفرد على السلطة في شؤونه الخاصة وحرمان السلطة من التهرب من طابعها المدني سيعطي الفرد والمجتمع فرصة أفضل في التقييم والانتقاد، وبالضرورة ستكون خيارات الفرد أكثر عقلانية واعتدالاً. اختيار الأفضل واحترام القانون والأسس الديمقراطية هي السبل الأفضل للارتقاء بالوضع العام في العراق. وبالضرورة فإن الاستقرار السياسي والاقتصادي سيتيح للمجتمع فرصة إعادة تقييم للذات الثقافية والعمل على إصلاح مواقع الخلل من خلال إحياء القيم العليا في التنشئة المجتمعية، وبالضرورة الارتقاء بمستوى الفرد وسلوكه العام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.