يمتلك القادة الناجحون رؤية عمّا يرغبون بتحقيقه في المستقبل البعيد أو القريب، ولا يقتصر الأمر على ذلك، وإنما يسعون إلى ترجمتها إلى مهمة وخطة عملية قابلة للتنفيذ لتحقيقها، وكانت رؤية عبد الكلام هي الهند في عام 2020؛ التي تتلخّص بأن تصبح ذات قوة اقتصادية تنافس الدول الكبرى.
ولم تكن هذه الرؤية وليدةَ اللحظة، فقد اشتغل عبد الكلام في عدة مناصب كعالِم ومستشار للعلوم، ولأكثر من أربعة عقود، في مجال الفضاء والدفاع القومي، مما زاد من شعور انتمائه لبلاده، وإدراكه لأهمية التقنية في تحويل البلاد إلى دولة متقدمة.
وعبد الكلام هو أبو بكر زين العابدين عبد الكلام. ولد عام 1931، درس الفضاء والهندسة الفضائية، واشتغل في عدة مناصب استشارية وإدارية في كل من (منظمة أبحاث تطوير الدفاع والتطوير ORDO) و(المنظمة الهندية لبحوث الفضاء ISRO)، كما شارك في البرنامج الهندي للفضاء المدني وأعمال تطوير الصواريخ. وتم تلقيبه بـ(رجل الصواريخ) في الهند لمساهمته في تطوير تقنية الصواريخ الباليستية وإطلاق المركبات، كما كان له دور تقني وسياسي في اختبارات الأسلحة النووية الهندية التي تمت عام 1998، وشارك في برنامج IGMDP لتلبية احتياجات الدفاع القومي، وفيها عمل على تطوير أنظمة استراتيجية وتكتيكية متعددة للأمن القومي. ثم أدار برنامج TIFAC الذي كان يهدف إلى تطوير الهند اقتصادياً، لتتحول إلى دولة متقدمة اقتصادياً عام 2020، تم انتخابه من كافة الأطراف الحاكمة والمعارضة رئيساً للهند، ولذلك سُمي بـ(رئيس الشعب)، وتلقى العديد من الجوائز المرموقة، مثل جائزة: Bharat Ratna وهي أعلى تكريم مدني في البلاد.
وقبل رئاسته، عمل عبد الكلام أستاذاً في جامعة آنا في ديسمبر 2001، وكان سعيداً بهذه الفرصة، لأنها أتاحت له مشاركة خبراته في مهامه الوطنية مع الطلبة، ومعرفة آمال وأحلام وتطلعات الشباب، وذلك من أجل تطوير مواد دراسية يتم تصميمها من المتخرجين من الطلبة بعدد 10 محاضرات لتحقيق رؤيته حول الهند 2020.
وفي فترة رئاسته، آمن عبد الكلام بأن الازدهار الاقتصادي للبلاد يتم عبر المعرفة، التي تتطور من خلال الاختراعات والتقنية، وبذلك بدأت خطته العملية لرؤيته ترتسم بوضوح، فلا بد من التطوير التقني لكافة مجالات الحياة، من تعليم وصحة وأمن ودفاع قومي واقتصاد.
وكان التحدي في ذلك هو عيش أكثر من نصف سكان الهند في القرى، وتلك القرى تعاني من مشاكل في البطالة والخدمات الصحية والتعليمية، فبدأ بزيارتها وعقد مختلف الاجتماعات لتطويرها، ووضع مؤشر خاص للتطوير في كل منها للمتابعة.
وأدرك أهمية الدعم الحكومي لإنجاح خطته، وذلك من خلال قيام البرلمانيين بالتخلّص من القوانين التي تعيق التقدّم، وتعاون الأحزاب السياسية مع بعضها لما فيه خير البلاد، فتصبح السياسة بذلك من سياسية إلى سياسة تطويرية، فتبدأ حينها تلك الأحزاب بالتنافس فيما بينها لما هو صالح البلاد، في مجالات الحياة المختلفة من صحة وتعليم وأمن وغيرها.
وهذا لن يتحقق إلا عند إدراك كل شخص مسؤول أهمية تلك التغييرات، والتعاون لأجل تطوير البلاد، فحرص عبد الكلام على إشراكهم في رؤيته من خلال إلقائه للعديد من الخطابات المتعلقة بذلك، وليس ذلك فحسب، وإنما بيّن لهم أهمية تحسين علاقة البرلمانيين مع الشعب من خلال وجود حكومة شفافة وذات مصداقية، وأن يصدق البرلمانيون في وعودهم لهم فيثق حينها الشعب بهم، ويدعم مختلف القرارات والقوانين التي يقومون بإصدارها.
وكان لشغفه وفضوله في المعرفة، وإخلاصه في العمل الدور الرئيسي ليقوم عبد الكلام بزيارة أكبر عدد ممكن من ولايات الهند، وذلك ليتعرّف بنفسه على المشاكل التي تعاني منها، ولمناقشة الحلول المناسبة وطرق التطوير مع الخبراء وحتى الأفراد من العامة، ثم عمل على إنشاء الحكومة الإلكترونية e – Government لربط المكتب الرئاسي مع مكتب رئاسة الوزراء وباقي الوزارات، فيسهل عليه جمع المعلومات حول أي منطقة من المناطق الهندية.
ثم بدأ بتحسين النظام القضائي لحل مشاكل الناس والقضايا العالقة لتسهيل عملية التطوير، فقام بمبادرة القضاء الإلكتروني e-Judiciary، لإنشاء قاعدة بيانات تعمل على حفظ وتخزين كافة القضايا، ومن وقت تسجيلها إلى البتّ فيها، وبذلك سيكون هناك تسريع في عمليات البحث والاسترجاع وجمع المعلومات، ومعرفة أماكن وتواريخ الجلسات، فيتمكّن القضاة من متابعة كافة قضاياهم، كما سيحقق ذلك الشفافية والمصداقية في كل قضية.
ثم ناقش مع الأساتذة ورؤساء الجامعات أسس تطوير المناهج المدرسية والمواد الجامعية، وذلك لتلائم سوق العمل والمهارات التي يحتاجها، وبذلك يُوجِد جيل توظيف قادراً على المساهمة في العملية التطويرية للبلاد. وبيّن عبد الكلام أهمية مساهمة ذلك في تقليل الهجرة من القرى إلى المدن من خلال توفير فرص العمل في كل منها، وتحسين الخدمات في كل قرية، وبذلك تقل المسافة الفاصلة بين المناطق الحضرية والنائية، فلا ينحصر التطوير والعمل في المدن الكبرى فقط.
أما بما يتعلق بالتعاون الدولي، تمكّن عبد الكلام من إنشاء منصة المعرفة العالمية أو ما تعرف بـ World Knowledge Platform، وذلك لتبادل المعرفة والخبرات مع الدول الأخرى لما فيه مصلحة الهند. كما تواصل مع الدول الإفريقية لعمل شبكة Pan African e-Network لتبادل الأفكار في كل من التعليم والصحة، ومن الجامعات والمستشفيات الهندية والإفريقية، وتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي بما يتعلق بمجال تحرير الطاقة، وذلك بعد خطاب وشِعر مؤثر ألقاه في الاتحاد الأوروبي عام 2007.
بالنهاية، قامت سويسرا بتكريم عبد الكلام، وذلك بإعلان يوم 26 مايو/أيار يوماً للعلوم، وهو اليوم الذي زار فيه البلاد عام 2005، وذلك بعد إعجاب الرئيس حينها بكتابيه India 2020 وIgnited Minds.
بذلك، نجد أن عبد الكلام وقبل وفاته عام 2005 قد نجح في تسخير حياته لخدمة بلاده وشعبه، فحرص على زيارة عدد أكبر ممكن من ولايات الهند، ومقابلة الأفراد وجهاً لوجه من مختلف الخلفيات الثقافية والمهنية والعمرية لمعرفة مشاكلهم واقتراحاتهم، وبذلك نجده قدوة للكثير من الرؤساء، وخاصة في المنطقة العربية.
ولم يتوقف عن العمل بعد انتهاء فترة رئاسته، إذ استمر في التعليم والقراءة والكتابة، وصدق قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (الملك: 2).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.