إن الشعوب العربية وهي تعبر إلى مستقبل الأجيال الناشئة، قد يكون للمحطات التاريخية التي مرت بها وقفة جادة مع التوجهات الإقليمية التي وجهت مساراتها، وانطلقت من خلالها إلى آفاق رحبة، والتي من الممكن أن تسافر عبر آلة الزمن؛ لمعرفة الأطر المجتمعية التي ساهمت في تقديم صورة مضيئة عن الواقع العربي في مراحل مختلفة، وكان فيها السياق التاريخي للحضارة الإسلامية ضمن الأدوات المنهجية التي ساهمت في وضع المحددات الاجتماعية للثقافة الإسلامية.
إن العوامل الثقافية لأي حضارة إنسانية هي التي جعلت من حالة التمازج الثقافي بين مكوناتها، أنموذجاً للتأمل الفكري حول الحركات الاجتماعية والسياسية التي قد تنشأ عنها من حيث أساسها، ولهذا كانت ثمة أسباب عملية ونظرية وراء إخضاع هذا النموذج بما يحمله من مفاهيم لأقصى درجات التفحص والتدقيق.
لذلك نجد أن "القيم الثقافية" في مجتمعاتنا المعاصرة قد تتطلب فهم الأحداث التي مرت بها، والتطورات التي رافقت عملية التحديث للأطر المجتمعية حول جدلية استخدام المفاهيم والمصطلحات ذات الألوان الأيديولوجية، لإيجاد أسباب مقنعة وشرحها، بشأن قضية تتبُّع تطورات سياسية، في سياقات إسلامية شبه صرفة.
ومن تلك المفاهيم، مفهوم أو ماهية المدرسة، باعتبارها مؤسسة اجتماعية تربوية حظيت بالاهتمام والدراسة منذ زمن طويل؛ وذلك نظراً لثقل المهمة الموكلة إليها من قِبل المجتمع، ولعظم التوقعات المنتظرة منها.
فقد تباينت آراء المفكرين والتربويين حول كلمة "مدرسة"؛ فيشير بعضهم إلى أن لفظ "مدرسة" مولّد عند العرب مأخوذ من العبرانية أو الآرامية وأصله "مدراس" أو "المَدرَس"؛ أي الموضع الذي يُدرس فيه، كما وردت بكلمة "س ك ل" السامية وتعني أحمق، غبي، مهمل، غافل، وهنالك "saklu " الأكدية وتعني أحمق و"سكل" العبرية بمعنى "مكتنز، سمين، ثبات، بسالة، بطالة، حماقة"، وإن كان بعضهم يرفض ذلك باعتبار أن "المدرسة اشتقاق عربي سليم".
ويستطرد السامرائي قائلاً: "وكون مدراس لدى العبرانيين لا يعني ضرورة أن لفظ (مدرسة) من محاكاة العرب للعبرانية، وقد جاء في الحديث الشريف (تدارسوا القرآن)، أي يدرسه بعضكم على بعض، ومن هنا عرف المسلمون المدراس، وهو البيت الذي يُدرس فيه القرآن (كما كان ) المدراس في الجاهلية: البيت الذي يدرس فيه اللهو، ويتفق معه الونشريسى قائلاً: المدرسة مشتقة من الدرس".
أما في مجتمعنا المعاصر، فقد حاول العلماء تحديد مفهومها، وتعريفها بأنها "مؤسسة اجتماعية تعكس الثقافة التي هي جزء من المجتمع"، وينظر إليها آخر بأنها "نظام فرعي مرتبط بالنظام الاجتماعي والتربوي"، كما يمكن وصفها بأنها "وسيلة وآلة ومكان في آن واحد، ينتقل الفرد من ذلك المكان وبواسطة تلك الآلة من حياة تتمركز حول ذاته إلى حياة تتمركز حول الجماعة، وبحيث يصبح من خلال تلك الوسيلة أنساناً اجتماعياً وعضواً منتجاً وفاعلاً في المجتمع ".
وإجمالاً لمفهوم المدرسة، يمكن القول: إن المدرسة مؤسسة اجتماعية تقوم بعمليتي التعليم والتربية، وتعمل على إكساب التلاميذ المعرفة والمهارات والخبرات التي يحتاجونها في حياتهم الحاضرة والمستقبلية، وتساعدهم على التفاعل مع بيئاتهم، كما تعمل على نقل التراث بين الأجيال، وعلى غرس قيم المجتمع ومعاييره في نفوس الناشئة وعقولهم؛ لتمكينهم من أن يسلكوا السلوك الاجتماعي المقبول في مجتمعاتهم.
ومن ناحية أخرى، تعمل المدرسة على تنمية القدرات الفردية وتشجيعها وتقوية الاستعدادات؛ كي يتمكن الأفراد من الاستجابة للتحديات والمتغيرات في مجتمعاتهم، ومن ثم مواكبة التغير والتطور وتلبية مطالبهما.
ومما سبق نجد، أن الإنسان الذي يحاول التعامل مع مفارقات التاريخ وتناقضاتها، قد يقترب من المرحلة التي تعبر عن مكنون الذات الإنسانية، ويكون بذلك قد أوجد النماذج المؤدية إلى استيعاب ماهية الخطاب القيمي لجدوى ذلك التعامل في سياقات متعددة.
وبذلك، نجد حالات "ضمنية" للسلوك الإنساني تتضمن الدافعية والتأثير والتأثر بمسارات ذلك السلوك، ولذلك يظل الإنسان في حالة تماهٍ مع الواقع، قد يتضمن أبعاداً أخرى ضمن فاعلية القوى المؤثرة والمتأثرة من جراء الاندفاع وراء تحقيق أهداف "ضمنية "، وليست أهدافاً "معلنة" حول مدى إمكانية إحداث تغير في السلوكيات والممارسات، ومن المحتمل أن ينتج عنها آفاق مستقبلية، لكنها قد تتعارض مع الوسائل والأساليب المحددة لطبيعة التفاوت "القيمي" في معرفة الأفكار المنبثقة عنها.
ويظل ذلك الفكر في مرحلة استجداء لكثير من المواقف السابقة، واعتبارها ضمن أولويات غير ذات صلة بالمتطلبات اللازمة للإيفاء بالشروط الموضوعية المعنية بإيجاد نوع من المصالحة الذاتية ضمن عوامل الانضباط الذاتي أو التكتيكي، والتي قد تُسهم في رفع درجة الشفافية بين المدرسة والبيئة الخارجية في ظل نظام ثقافي شامل.
إن الانسيابية في وضع المحددات الاجتماعية للثقافة الإسلامية قد تكون ضمن تلك العوامل، وآليات البحث عن مفرداتها ومفاهيمها قد تتطلب إزالة الحواجز النفسية المصطنعة، التي قد تُحدث لغطاً إدراكياً حول النماذج البشرية المعبرة عن دلالات تلك الثقافة؛ ما يُمكن أن يترتب عليها في مجال الفكر التربوي والإسلامي.
إن المسألة ليست قضية جدلية فحسب؛ بل حالة واقعية أو متخيلة للأساليب المقترحة أو المرجوة من التفاعل الاجتماعي مع البرامج المتوقعة من الأنماط المتعددة لطبيعة السلوك الإنساني، والتي قد تتجاوز الإطار الفكري المتعلق بالزمان والمكان؛ لتجعل من السياقات الواردة أعلاه ضمن أرجوحة اللغة الهوياتية والنماذج المعبرة عنها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.