قرية “إجزم” الفلسطينية بينَ حكاياتِ جَدّتي العجوز وواقعِها الجغرافي والاجتماعي

بلسانِ كاتبٍ قرويٍّ مُتَعَطّشٍ لقريتهِ، سأبوحُ لكم بأسرارٍ ليليّةٍ عن قريتي الصغيرة، تلك القرية التي لملمتُ معلوماتي الوليدة عنها من جَدّتي العجوز، وذلك بِحُكْمِ مُزَاملتي لها سنواتٍ طويلة، في غرفتها المشيّدة من الطينِ واللَّبِن في قيعان بيتنا المتآكل.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/03 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/03 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش

بلسانِ كاتبٍ قرويٍّ مُتَعَطّشٍ لقريتهِ، سأبوحُ لكم بأسرارٍ ليليّةٍ عن قريتي الصغيرة، تلك القرية التي لملمتُ معلوماتي الوليدة عنها من جَدّتي العجوز، وذلك بِحُكْمِ مُزَاملتي لها سنواتٍ طويلة، في غرفتها المشيّدة من الطينِ واللَّبِن في قيعان بيتنا المتآكل.

هناك، وحيث نشأَتْ صداقتي الغريبة بيني وبين جَدّتي، راحت جدتي تقصّ على مسامعي وعلى وقعِ حبّاتِ المطر حكايتَها مع قرية إجزم في قضاء حيفا في فلسطين المحتلّة، ورحلتها المريرة التي أجبرَتها على مغادرة إجزم إثرَ إعلان قيام ما تُسمّى دولة إسرائيل عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانيةٍ وأربعين.

كانت تجاعيدُ وجهِها آنذاك تَشِي بكل شيء / تَشي بالندم حيناً وبالشوق حيناً وبالفخَارِ أحياناً أخرى..
ليس هذا فحسب، بل كانت تلك التجاعيد مصدرَ معلوماتي الوحيد عن تلك الأرض المقدّسة، بسبب ندرة وسائل التواصل الاجتماعي.

كانت تُحدّثني عن إجزم وجمالها الفلسطيني وعاداتها وتقاليدها، وكانت جدتي الأمّيّة تبدو وكأنّها مؤرّخٌ مخضرمٌ أثناء سردِها لتفاصيل التاريخ الجزماوي ومنعطفاته المهمّة، فسنواتُ الفُرقةِ المديدة لم تمحُ من ذاكرتها حتى عَرَصاتِ بيتِنا هناك / نعم بيتنا / أقولُها كما كانت تقولُها جدّتي / بيتنا العامر بسنديانات الليمون والبرتقال / بيتنا الذي أحببتُه دون أن أراه / بيتنا الذي يسخرُ مني نُزَلائي حينما أذكرُ أمامهم أملي بالعودة إليه بعد كل هذه السنوات المتعاقبة، وكأنّ أشجار الليمون لم تيبس بعد، بل وكأنّها أقسمَت ألا تموتَ قبلَ معانقتها لِفُؤوسنا التي ستقلبُ تُربَتَها رأساً على عَقِب.

حَفِظتُ كل شيء عن إجزم من حكايات جدتي العجوز، واليوم وبعد أن نشأنا تلك النشأة، وصرنا إلى ما صرنا إليه، دخلتُ إلى أسواق الإنترنت لِجَلبِ معلوماتٍ عن قريتي المحتلّة، ولمعرفة أصلي الذي يحاول الصهاينة اليوم طمسه بشتّى الوسائل، وإدخاله في بوتقة النسيان، لكنّ المُدهشَ أنّ جميعَ المعلومات التي طالَعتني في الإنترنت عن قرية إجزم، هي ذاتها التي ذكَرَتها لي جدتي في حجرة اللّبِنِ قبل عشرين سنة وأكثر، وقبلَ أن يجتاح الإنترنت منازلنا وعقولنا.

علمتُ عندها أنّ جدّتي كانت صادقةً في كل ما قالته لنا، حتى في تلك القصّة التي تَلَتْها على مسامعنا والتي رابَنا حولها الشك والظن لِغَرابَتِها ربّما، أو لأنّها حملَت بين سطورِها حكايةَ الحُبّ الحقيقي الذي ينشأ بين الزوجة وزوجها.

فكثيراً ما كانت جدتي تقول لنا إنه وفي يوم النكبة، وحينَ بدأ الطيران المساند للصهاينة بتنفيذ مهامه العدوانية، هرعَ جميع أهالي إجزم والقرى المجاورة إلى الهروب بحثاً عن الأمان ذاته الذي بحثنا عنه اليوم، وأثناء عملية الزحف والرحيل التاريخية، أُصِيبَ جدّي الهَرِم بشظايا حادة نتيجة الطيران، الأمر الذي أدّى إلى حُدوثِ فُتقٍ كبيرٍ في بطنه عطّلَهُ عن الجري، نتيجة النزف الحاد والألم الشديد، فحملته جدتي على كتفيها حتى استظلّت بشجرةٍ كانت تعتقد أنها شجرةُ الأمان المنتظَر، ولأنها أيقنت أنّ رحلتها ستدوم طويلاً فقد بحثَت عن شيء ما يُوقِف نزيف جدي ويلتئم به الفتق.

فلم تجد وسيلةً إلا أنّها أخرجَت من حقيبتها المتآكلة خيطاً وإبرةً طويلة، وبدأت تُحِيكُ الجرحَ كما الخيّاط يُحِيك الملابس، وبقدرة الله عاد الأمر إلى السيطرة حتى وصلوا إلى أقرب مركز طبي للإسعافات الأوليةّ، وتمّ تقديم العلاج.

كنتُ أظنّها تبالغ، ولكني علمتُ فيما بعد أنّ كلامها دقيق، وليسَ من العصبيّة القبليّة بمكان أن أنعتَ نساءَ إجزم بالنساء الحرائر اللواتي حاولنَ أن يرسمنَ خريطة فلسطين في عقول أحفادهنّ كي لا تحثوها رياح الأزمان والنسيان.

وكثيراً ما كانت جدتي تذكّرني بإجزم بوسائل متعددة، تارةً بالسرد المباشر، وتارة باستخدام عنصر النادرة والنكتة، ووصلَ بها الأمر إلى الحداء، فهي كانت تربط اسمي باسم إجزم حتى في أهازيجها التي كانت تبدأ ليلاً، وبصوتٍ فلسطينيٍ ليس له مثيل، ومَطلَعُ أهزوجتها ما زلتُ أحفظه حتى اليوم، وما زال ميسم الدلعونة منقوشاً في أذني كالنقش على الحجر، فأجمِلْ بالمُنشِدِ حين ينشدُ لي ليلاً: عبد يا عبد يابو الجاكيتة / نازل على إجزم بالبوسكليتة، وإنت يا وردة في صدر بيتي، كل يوم الصبح ييجو يشمونا..
ليتني أستطيع تلقينها لأبنائي اليوم، ولكنّني لن أستطيع، لأنّ من رأى ليس كمن سمع.

هكذا عرفتُ قريتي وهكذا نشأتْ إجزم في مخيّلتي، قريةً ذات عقليّةٍ عنيدة، يُعرَفُ قاطنوها بالحِدّةِ وصلابة الرأي، والتّعنّتِ في المواقف، تسكنها قبائل فلسطينية لها ما لها من بساطة العيش، ويشرف عليها وادٍ جميل تسمّيه جدتي وادي الحَمَام ووادٍ آخر هو وادي المغارة، وهي قرية غنية بالينابيع والآبار وبأشجار الليمون والزيتون والتين، وتسكنها عائلاتُ عديدة متحزّبة، منها عائلة زيدان وماضي والعزايزة وعبد الهادي والطوافشة الذين أنتمي إليهم، وأبو حمدة وأبو شقير وأبو زرد وأبو خليفة والنبهاني وغيرها.

ولعلّ جدتي كانت مُنصِفةً إلى حَدٍّ بعيد حينَ تحلّت بالموضوعية والنزاهة التي يفتقدها المؤرّخون اليوم، فكانت تذكرُ لي سلبيّات أهالي إجزم، والمآخذ التي كانت تؤخذ عليهم، ولم تكتفِ فقط بذكر المحاسن والجوانب المُشرقة، فمن عاداتهم التي لا يُحسَدون عليها تعاملُهم مع الألقاب؛ إذ خصّصوا لكل عائلة لقباً تُعرَف به، وقد وصلَ بهم الأمر إلى الاعتراف باللقب رسميّاً لِيحلَّ مكان الاسم الصريح، فلا يُعرَف الرجل من أيّة قبيلة هو إذا لم يذكر لقبه الذي يتداوله أهالي إجزم.

وتحيطُ بإجزم قرى عديدة منها قرية دالية الكرمل وجبع وعين غزال والمزار، ولعلّ من أجمل ما ذكرَته جدتي لي هو التنافس البريء بين أهالي إجزم وأهالي عين غزال، إنه تنافسٌ ثمينٌ له وقعٌ مُدَوٍّ ومليءٌ بالمحبّة والترابط، وما يزال هذا التنافس حتى يومنا هذا، فتلك الهفواتُ الجميلة والمُضْحِكَة ما تزال تقفز بين الفَينة والفَينة إلى المجالس التي يلتقي فيها الجزماوي والغزلاوي، وجهاً لوجه؛ ليقدّموا ضرباً مميّزاً من ضروب حُسنِ الجوار.

تلك هي إجزم التي عرفتُها مرّتين، مرّةً في شتاء جدتي هناك على سريرِها الحديديّ الخشن، ومرّةً على بوّابة الإنترنت.

تُرَى هل سأعرِفُها ثالثةً حينَ يُمهَرُ رملُها بأقدام العودة؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد