هو عند البعض الإمام الأكبر، سلطان العارفين، وإمام المحققين، البحر الزاخر محيي الدين بن عربي، وعند غيرهم كافر من أقطاب الضلال، وعلى بعد المسافة بين الفريقين يتفق الجميع على كون الرجل أحد أكثر الشخصيات التاريخية إثارة للجدل.
في روايته الحاصلة على جائزة البوكر العربية "موت صغير" والصادرة عن دار الساقي، يتجاوز الروائي السعودي محمد حسن علوان هذا الجدل؛ ليقدم رؤية إنسانية لسيرة الصوفي الشهير، تتعامل مع شخصيته على أسس فنية، وتوظف ما أحاط بحياته من سفر أو صراع لخدمة النص الروائي، يُسير علوان الأحداث على خطين متوازيين؛ خط يروي فيه ابن عربي سيرة حياته من الميلاد إلى الممات، وخط يتتبع المسار الزمني والمكاني للمخطوط الذي دونت عليه هذه السيرة.
ورغم كون الرواية كبيرة نسبياً، جاءت فيما يقارب 600 صفحة، فإن علوان نجح في تقسيم عمله إلى محطات متتالية، في إطار رحلة محددة الهدف يسهل على القارئ متابعتها والتفاعل معها، دون الشعور بالثقل، أو الملل.
يتتبع الخط الروائي الأول انتقالات ابن عربي بين حواضر الإسلام من الأندلس إلى القاهرة ومكة والشام وبغداد وغيرها، في إطار سفر طويل يبحث فيه عن أوتاده الأربعة، وطبقاً للتصور الصوفي ينتشر الأوتاد في أجناب الأرض لحمايتها من الشرور، وتثبيت أركانها، ما يوفر السبب الدرامي للرحلة الطويلة التي سيقطعها بين البلدان، وفي إطار الرحلة يستعرض محمد حسن علوان الواقعَ السياسي للبلاد العربية والإسلامية المختلفة في تلك الفترة، فيخلق في روايته بُعداً جديداً، ومستوى أكثر عمقاً في قراءة الأحداث.
ويمكن القول إن علوان منشغل بقضايا الحكم، وصراعات الممالك في تلك الفترة، وهو حين اختار ابن عربي كبطل لروايته وكراوٍ لأحداث الخط الروائي الأول، اختاره للاستفادة من كونه عاش تحت حكم المرابطين والموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة، وشهد صراعات هذه الممالك وشهد الحروب ضد البرتغاليين والإفرنج وثورات بني غانية وغيرها من الأحداث التي مرت بحياته وخلّفت دراما قوية استفاد منها المؤلف لتعزيز روايته.
ومن ثم فإن النظر إلى الرواية على اعتبارها سيرة لحياة ابن عربي ولأزمته الفردية، نظرة قاصرة تهمل معالجة المؤلف لأزمة المجموع؛ حيث الإنسانية المأزومة تعاني تحت سياط الصراعات السياسية، ولا يشكل انتقال البطل للعيش تحت حكم ملوك مختلفين فارقاً كبيراً، فالسياسة واحدة باختلاف الملوك، والأزمات تظل تلاحق البشر على اختلاف المدى الزمني أو المكاني.
تجد هذه النظرية ما يعززها بالنظر إلى الخط الروائي الثاني للأحداث الذي يتتبع حركة المخطوط الذي كتب عليه ابن عربي سيرته، يتنقل المخطوط من يد إلى يد، ومن زمن إلى زمن والأزمة قائمة ومتكررة، وإذا كان ابن عربي البطل الرئيسي للرواية قد توفّي في دمشق إبان حكم الأيوبيين لها، فإن المخطوط كان شاهداً -أثناء تنقله- على زوال الدولة الأيوبية، وتدمير هولاكو لحلب، وصراعات المماليك، والعثمانيين، واحتلال الفرنسيين لسوريا، مروراً بما حدث في حماة عام 1982، والحرب السورية حتى عام 2012، حين يسلم لاجئ سوري المخطوط إلى خبيرة مخطوطات تسافر به إلى فرنسا في مقابل ألف دولار يمكن أن تساعده في أزمته.
ويحسب لعلوان قدرته الهائلة على تحميل روايته بالأفكار والرؤى من غير حشو، أو بعد عن الطابع الروائي، وهو يجمع بين الأزمة الفردية لابن عربي الذي يطوف الأرض باحثاً عن الثبات لقلبه والراحة لنفسه، وبين أزمة الناس من حوله على اختلاف الزمان والمكان، ويُرجع علوان سبب أزمة الفرد وأزمة المجموع -على السواء- إلى عدم القدرة على تحمل المختلف، وإلى غياب الحب، الذي يكتشف القارئ في النهاية أنه الحل الوحيد حين يلتقي ابن عربي وتده الرابع شمس التبريزي فيخبره أن الإنسان إنما يطهر قلبه بالحب.
والحقيقة أن رواية تحمل كل هذه الأفكار، وتستطيع صوغها في قوالب درامية، وسرد سلس، ولغة بليغة، مع قدرة كبيرة لمؤلفها على الوصف، وانتقاء الكلمات المناسبة للزمان والمكان، تستحق الفوز بجائزة البوكر العربية بكل تأكيد، ويستحق مؤلفها محمد حسن علوان الكثير من الثناء على مجهوده البحثي قبل البدء في الكتابة، وعلى ثقافته التي تجاوزت ارتباطه المحلي، وقدرته على دخول عش الدبابير بالكتابة عن شخصية جدلية كابن عربي، في رواية موجهة بالأساس للمجتمع السعودي الذي لا يحتفي بالرجل كثيراً، ولا يحبه في الأغلب، دون الانحياز لتفضيلات هذا المجتمع، ومن دون أن يؤثر ذلك على معالجته الروائية، وجملة القول إن رواية "موت صغير" رواية ممتازة على مستويات عدة، من تلك النوعية من الروايات التي تترك أثراً لدى القارئ، ولا تتبخّر بمجرد الانتهاء من قراءتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.