دعا نواه فيلدمان، أستاذ القانون الدولي والدستوري بجامعة هارفارد، المصريين إلى التوقف عن تحميل دونالد ترامب أو الأميركيين بصفة عامةً مسؤولية الحكم القمعي الذي يمارسه الرئيس عبد الفتاح السيسي، معتبراً أن اللوم يقع على طرف آخر تماماً.
وقال فيلدمان في مقال له نشره في موقع بلومبيرغ "لا يجب أن تُعلَّق التحرُّكات الشمولية المتزايدة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أقرَّ للتو قانوناً جديداً يمنحه السيطرة على المنظمات غير الحكومية في بلاده، على حالة الود التي تجمعه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وأضاف في الواقع، إنَّه بعد 6 سنوات من الربيع العربي، ونحو 4 سنوات منذ سيطرة السيسي على الحكم، فقد حان وقت التوقُّف عن إلقاء اللوم في فشل الديمقراطية في مصر على الولايات المتحدة.
السبب الحقيقي؟
واعتبر البروفيسر وكاتب العمود بقسم الآراء بمجلة بلومبرغ، أنَّ السبب الحقيقي لقمع السيسي لمعارضيه، بما في ذلك القيود الجديدة التي فُرِضَت على مجموعات حقوق الإنسان والمؤسسات الخيرية الأخرى، يتمثَّل ببساطة في أنَّه لم يتبق أي شخصٍ في البلاد قادر على تحقيق التوازن في مواجهته. وتلك نتيجةٌ للقرار الكارثي الذي اتَّخذه قطاعٌ من الجماهير المصرية بالارتداد على القادة المُنتَخبين ديمقراطياً، مهما كان هؤلاء القادة سيئين، واللجوء إلى الجيش.
لماذا يتم إلقاء اللوم على ترامب؟
يرى الكاتب أن الاندفاع الغريزي إلى تحميل ترامب مسؤولية التشريعات المُتطرِّفة للسيسي يعود إلى جذرين. أحدهما يستند إلى السياسات المناوئة لترامب في هذه اللحظة. والآخر يكمن في نظرةٍ عالمية أوسع تُحمِّل الولايات المتحدة مسؤولية كل شيء يحدث في مصر تقريباً، وهي الحليف التقليدي الذي يتلقّى مساعداتٍ عسكرية كبيرة من الولايات المتحدة.
ويقول "وكلاهما على خطأ، أو على الأقل يحتويان على مبالغةٍ كبيرة".
وأقر الكاتب أن ترامب عبَّر بالتأكيد عن دعمٍ علني لنظام السيسي. وحظي الرئيس المصري بمكانٍ مهم في زيارة ترامب الأخيرة للسعودية، حيث، كان السيسي أحد الرجال الثلاثة الذين وضعوا أيديهم على الكرة المُتوهِّجة التي أصبحت الآن شهيرة. كما أنَّ السيسي هو واحدٌ من بين حِفنة من القادة الأجانب الذين دُعوا إلى واشنطن لزيارة ترامب، وهو ما بدا كنجاحٍ له.
ويضيف "يمثِّل هذا بالتأكيد نمطاً في سياسة ترامب الخارجية يهدف إلى تبنّي النظرة الواقعية بدلاً من المثالية الليبرالية. ولا شك في أنَّه قد عزَّز قبضة السيسي في بلاده".
لكنه استدرك قائلاً "من المهم تذكُّر أنَّه بحلول الوقت الذي غادر فيه أوباما الحكم في الولايات المتحدة، كان قد تبنّى سياسةً داعِمة للسيسي تماماً كترامب، حتى ولو كانت أقل وضوحاً في العلن".
إذ يمنع قانونٌ فيدرالي تقديم المساعدات العسكرية للحكومات التي وصلت إلى السلطة عبر انقلاب. لكنَّ أوباما رفض ببراعةٍ التوصُّل إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ استيلاء السيسي على السلطة في 2013 كان يُعَد انقلاباً، وأعاد في نهاية المطاف المساعدات العسكرية لمصر كاملةً.
وكانت بعض الأصوات داخل إدارة أوباما ترغب في عدم التعامل مع السيسي كحليفٍ مُقرَّب. لكن في نهاية المطاف، تغلَّبت قيمة مصر بالنسبة للإدارة الأميركية على قيمة الديمقراطية. وكما وصف مسؤولٌ في إدارة أوباما لم يُكشَف عن اسمه الأمر لمجلة "بوليتيكو" الأميركية العام الماضي 2016، فإنَّه حينما تعلَّق الأمر بمصر، "استسلمنا".
هل هناك فارق بين موقف أوباما وترامب من مصر؟
يخلص الكاتب في هذه النقطة إلى أن سياسة ترامب إزاء مصر تأتي مُتَّسِقةً مع سياسة أوباما. وبالنظر إلى الدرجة التي ينظر بها ترامب إلى مصر باعتبارها مُشارِكةً مهمة محتملة في صفقةٍ إقليمية كبرى للسلام والأمن، فبالتأكيد يصبح مُسوِّغُ ترامب للإبقاء على السيسي حليفاً مُقرَّباً أقوى من مُسوِّغ أوباما.
هل أميركا هي التي صنعت الربيع العربي؟
يقول نواه فيلدمان، يبدو أن الدافع الغريزي الآخر للإلقاء باللائمة على الولايات المتحدة أكثر عمقاً. وهو يستند إلى وجهة النظر التي ترى أنَّ القوى الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة قد تدخَّلت منذ الحقبة الاستعمارية بعمقٍ في الشؤون المصرية والعربية الأوسع إلى حد أنَّه يمكن تحميلها المسؤولية عن فشل الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط.
ويضيف قائلاً: "لقد استحقت وجهة النظر تلك أن تؤخَذ على محمل الجد لفترةٍ طويلة، وأنا شخصياً كنتُ أتبنّى نسخة من وجهة النظر تلك حينما بدأتُ الكتابة عن آفاق الديمقراطية في البلدان ذات الغالبية المسلمة في بداية الألفية الجديدة".
غير أنَّ أحداث الربيع العربي وما أعقبها قد أظهرت تحوُّلاً تاريخياً مهماً، يجب أخذه على محمل الجد أيضاً، حسب فيلتمان.
إذ يؤكد البروفيسور الأميركي أنه لم يكن للولايات المتحدة أي يدٍ تقريباً في التدفُّق العفوي للمشاعر المناهِضة للاستبداد في 2011، والتي دفعت الملايين إلى الخروج إلى الشوارع، وأسهمت في إسقاط الحكم الاستبدادي لحسني مبارك. وللمرة الأولى على مدار نحو قرنٍ من الزمان، عبَّر المصريون عن إدراكهم لفاعليتهم السياسية.
ويضيف: "حينما ذهب المصريون إلى صناديق الاقتراع وانتخبوا حكومةً ديمقراطيةً يقودها أعضاءٌ من الإخوان المسلمين بهامشٍ ضئيل، كان ذلك أيضاً انعكاساً لفاعليتهم السياسية، وليس تدخُّلاً أميركياً. لم تكن الولايات المتحدة تُفضِّل ظهور حكومةٍ إسلامية منتخبة ديمقراطياً في مصر أو في أي مكانٍ آخر؛ فقد كانت تخشى تلك النتيجة.
ويتابع قائلاً: "وكما اتَّضح، فقد قامت حكومة الإخوان المسلمين في ظل حكم مرسي بكل خطأٍ قد تقوم به تقريباً، وأهم تلك الأخطاء هو الفشل في إقامة ائتلافٍ ذي قاعدةٍ واسعة لربما كان سيُقوِّيها في وجه التحديات الآتية من الدولة المصرية العميقة والقطاع الذي لم يُصوِّت لها من الشعب".
ولكن يلفت الانتباه في الوقت نفسه، إلى أن القوى التي كرست جهودها للإطاحة بمرسي جعلت مهمته صعبةً للغاية. وتتضمَّن تلك القوى المحكمة الدستورية العليا، التي حلَّت مجلس الشعب بعد انتخاباتٍ حرة.
وفِي هذا الإطار، أشار للاتهام الذي وُجِّه لمرسي بأنَّه حكم بطريقةٍ مستبدة، معتبراً أنه به بعضٌ من الحقيقة، ولكنه تساءل بأي طريقةٍ أخرى قد تحكم إذا لم تكن هناك هيئةٌ تشريعية قائمة؟
وقال: "وفي النهاية، خرجت قطاعات واسعة من الشعب المصري إلى الشوارع للاحتجاج ضد مرسي. وتلقَّف الجيش الدعوة للعودة إلى السلطة والقضاء على الإخوان المسلمين".
يؤكد الكاتب أن هدفه ليس إعادة صياغة تفاصيل تلك الكارثة الديمقراطية، بل الإشارة إلى أنَّه مَن حدَّد مصير الديمقراطية في مصر كانوا هم المصريين، وليس الخارج. فقد كانت إدارة أوباما مستعدةً للقبول بحكومة مرسي. وكانت في نهاية المطاف مستعدةً للقبول بحكم السيسي العسكري.
ولفت إلى أنه في ظل حظر جماعة الإخوان المسلمين وسجن قادتها، لا توجد أي قوةٍ في مصر قادرة على الوقوف في وجه السيسي. وكان من المنطقي والحتمي أن يفرض السيسي قيوداً أكبر وأكبر على أية معارضةٍ سياسية. وكان ذلك مُتوقَّعاً بنسبة 100%. ويردف قائلاً: "لقد توقعتُ ذلك شخصياً".
وفي نظرة أكثر تشاؤمية، يرى الكاتب أنه من المُستَبعَد للغاية أن يحظى المصريون بأي شكلٍ من أشكال الديمقراطية لفترة جيلٍ على الأقل. وهذا أمرٌ مأساوي، لكنَّه ليس خطأ الخارج، بما في ذلك الولايات المتحدة. إنَّه نتاج القرارات السياسية التي اتَّخذها المصريون الذين كانوا ولا يزالون وكلاء على مصيرهم.
ويختتم مقاله قائلاً: "لذا، علينا أن ننتقد ونتحسَّر على محاولة السيسي السيطرة على المجتمع المدني المصري. لكنَّنا لا يجب أن نلوم ترامب أو الولايات المتحدة على النتيجة المحتومة لرفض المصريين للحكم الديمقراطي، بكل عيوبه وقيوده، لصالح ديكتاتوريةٍ عسكرية.