كلما شاهدت أو سمعت تعليقاً عما يدور على جبهة "المسلسلات" التي تسمَّى زوراً وبهتاناً رمضانية، تذكرت واقعة معينة وتعليقاً سمعته قبل حوالي عقدين من الزمان.
كنت يومها في سنتي الجامعية الأولى، في جامعة الموصل، ووضعني ترتيبي الأبجدي على نفس طاولة مخبر الحاسوب مع فتاتين "موصليتين" كانتا نموذجاً لكل ما هو مشرف وباعث على الفخر في أهل الموصل، يحضرني من هذه الصفات الحشمة والزي الشرعي والجدية، وتطابق ذلك كله مع السلوك عندهما بالذات، بالإضافة إلى ما لا أخجل من ذكره من مواصفات شكلية يعبر عنها المثل الموصلي الخبيث: "قولي بيضا واسكتي وقولي سمغا (سمرا) وامدحي"، والمثل يعني أن البيضاء لا تحتاج إلى مديح، أما السمراء فيجب أن تمدح بذكر مزايا أخرى!
وأهل الموصل -لمن لا يعرفهم- لديهم الكثير مما هو مشترك مع أهل الشام؛ لديهم على الأقل ذلك الإحساس بأنهم الأفضل، الذي يحتم عليهم أحياناً أن يحاولوا أن يكونوا الأفضل، أو على الأقل يبدون كما لو أنهم كذلك!
وإذا كانت كل القصص تنتهي بالنسبة للشوام عند مدينتهم، فإن كل شيء يبتدئ من الموصل بالنسبة لأهلها، على الأقل منذ أن رست سفينة نوح عندهم!
بل إنني أعتقد أن لهم ما يكفي من الأدلة للاعتقاد بأن آدم شخصياً كان من أهل الموصل، وكما أن لدمشق سورها الذي زال مبناه وبقي معناه في خارطة تضاريسهم النفسية التي تقسم الناس إلى صنفين: داخل السور، وخارج السور، فكذلك للموصل سورها الذي نقش في أهلها صفات وحكايات كثيرة، من ضمنها حكاية "أهل البرة" و"أهل الجوة"، بالضبط كما في دمشق.. (وإن كان الكلام عنها أقل مقارنة بالشام)، وعلى الرغم مما قد يبدو من "عنصرية" للوهلة الأولى عند أهل المدينتين، فإن ذلك يتجسد في أحيان كثيرة في صفات إيجابية في داخلهم لا تجعلهم معتزين فقط بانتسابهم لمدينة عريقة، بل تجعلهم أيضاً يحاولون أن يكونوا على قدر تلك العراقة.. (لكن للإنصاف، يتفوق أهل الشام بياسمينهم المتدفق لطفاً على ألسنتهم وسلوكهم.. من الفروق أيضاً امتلاك أهل الشام قدرة كبيرة على جلد الذات، بينما يفتقد أهل الموصل لذلك تماماً! ويمتلكون بالمقابل موهبة استثنائية في الإصرار والمتابعة قد تسمى أحياناً: النق).
أين كنا؟ كنا في الموصل.. وكان يا ما كان.. رمضان في الموصل.. بالذات في مخبر الحاسوب، كانت قواعد السلوك الموصلي تحرم تماماً الحديث بين الطلاب والطالبات على الأقل في السنة الجامعية الأولى! لكنّ أحكاماً مخففة صدرت بحقي ربما بسبب ما كان يعد يومها "غربة"، سألت الزميلتين مرة عن وصفة "الكبة اللبنية"، التي هي مشترك آخر بين الشام والموصل، فأخبرتني إحداهما لاحقاً أن جدتها بكت عليّ تعاطفاً مع غربتي.. كان العراقيون آنذاك يتصورون أن 400 كيلومتر تعني الغربة، لم يكونوا يدركون في أي أصقاع بعيدة سينتهون خلال أقل من عقدين فقط!
المهم.. مرة أخرى، أين كنا؟.. كنا في رمضان، وكان يا ما كان في الموصل ومسلسلات رمضان..
يومها التفتُّ لأسال بشكل عابر تماماً عما يعرض في التلفاز هذه الأيام (في رمضان).. طبعاً كان ذلك قبل القنوات الفضائية، وعندما كنت تقول التلفاز كنت تقصد شيئاً واضحاً ومحدداً وليس كما هو اليوم.
حركت واحدة منهما رأسها بأسف، وقالت عبارة واحدة باللهجة الموصلية – ستذهب بالنسبة لي ولعائلتي لتكون مثلاً- قالت: "كِن جَنوا"، أي: "لقد جنوا".
ما الذي جعلها تقول ذلك؟ كانت تلك هي المرة الأولى التي يعرض فيها التلفاز "الفوازير" المغناة.. وكان ذلك آنذاك يعد تعدياً خطيراً على حرمة الشهر الفضيل؛ لاحتوائها على الرقص والاستعراض.
"كِن جَنوا" من أجل الفوازير.. لم يكن ذلك قبل قرون، لم يكن هناك ديناصورات تلعب في الباحة، كان ذلك قبل عقدين فقط، أي مقارنة مع ما يدور الآن سيقول لنا كم تدهور كل شيء وفي غضون فترة قصيرة نسبياً (سيقول آخرون إنه دليل على تطورنا!)، وكم ستكون الأمور أكثر تدهوراً وانحطاطاً خلال فترة قصيرة قادمة أيضاً! بحيث قد يبدو بعد عشرين عاماً أن مسلسلات اليوم كانت نموذجاً للحشمة.. لا تستبعدوا ذلك، فهذا هو المنطق الذي يتحكم بالأمور عندما ينسحب منها من يجب أن يتحكم بها، وما حدث في الإعلام، كمّاً ونوعاً، خلال هذين العقدين، يدل على ذلك أكثر مما يدل أي شيء آخر.
(يُتبَع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.