ترنيمات – الجزء الثالث

وأخيراً وصلت للقاع لتغمرني المياه حتى رقبتي باردة تخدّرت منها أطرافي، فأخذت نفساً عميقاً ثم عُصت لقاع البئر لأصل لصندوق خشبي مطّعم بحواف فضية ومربوط بسلسلة حديدية غليظة تمنع طفوه على وجه المياه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/31 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/31 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش

البئر

دفعت غطاء البئر المصنوع من الحجر الصوّان ما وسعتني طاقتي، حتى غمرني العرق ونال منيّ الإجهاد والتعب وأخيراً بعد فترة بدأ الغطاء يستجيب ويتحرك من مكانه ببطء حتى بانت فتحة البئر الغويطة المظلمة.

ألقيت حبلاً غليظاً لقاع البئر وربطته بإحكام بطرف الغطاء ثم نزلت ببطء في رحلة أقوم بها كل فترة كلما افتقدت أشياء أخفيها عن العيون وعن نفسي التي بين جنبَي، فلا أمان لها إلاّ ببئري العميقة.

وأخيراً وصلت للقاع لتغمرني المياه حتى رقبتي باردة تخدّرت منها أطرافي، فأخذت نفساً عميقاً ثم عُصت لقاع البئر لأصل لصندوق خشبي مطّعم بحواف فضية ومربوط بسلسلة حديدية غليظة تمنع طفوه على وجه المياه.

جلست بقاع البئر كاتماً أنفاسي وفتحت الغطاء ثم تحسست ذكرياتي وحياتي السابقة ولمست بيديّ مرارات الفقد وأحصيت أمنياتي الضائعة؛ لتنحدر دمعة ساخنة من عيني تحيل برودة المياه لدفء انتشر في أوصالي.

أعدت الصندوق لمكانه، وتسلّقت الحبل لأخرج من البئر ثم حرّكت الغطاء الحجري لموضعه ثم مضيت إلى لا مكان.

"تهديد خفيّ"

كانت الساعة قد تجاوزت السابعة صباحاً بقليل، برودة الخريف في ذلك الوقت، تجعل الشارع الهادئ يكاد يخلو من المارة.

خرجت لعملي مبكراً في هذا اليوم لبضعة أمور تستدعي العجلة، وما إن شرعت في عبور الطريق إلاّ وقد وجدته أمامي بطوله الفارع ولحيته الكثيفة وقدميه الحافيتين ومعطفه الثقيل الذي يغرق فيه حتى أذنيه وهيئته الغريبة فأثار خوفاً بداخلي سرعان ما بددّه ضوء الصباح الباكر.

عاجلني بإلقاء تحية الصباح بأدب جم لا يتناسب مع عملقته وقسوة هيئته، توجست خيفة منه وترددت في مبادلته السلام بصوت مسموع، فقصرت الأمر على غمغمة تؤدي الغرض.

صمت قليلاً وحّدجني بعينين باردتين كأعين الموتى وقال: زمن طويل مرّ على لقائك بنا، ويبدو أن مشاغل الحياة لديك قد منعتك من التواصل معنا والسؤال علينا.

لذا قررت أن آتي إليك لإبلاغك أنك تجاهلتنا كثيراً وآن الأوان أن تعود لصحبتنا، واعلم أنيّ قد أتيتك هذه المرة للتحية والسلام والتذكرة وفي المرة القادمة سوف نأتي إليك جميعاً.

أفقت على صوت مفزع لآلة تنبيه لسيارة تقطع الشارع سريعاً فسرت في جسدي رجفة كبيرة.

إيقاع حزين

اقتربت عربة حنطور تميزها خطوات رتيبة الإيقاع لحوافر حصان على أسفلت الشارع، كان الوقت يقترب من المغرب بأحد أيام شهر يناير/كانون الثاني الباردة حيث يحل الظلام سريعاً ليلفّ الكون بعباءة سوداء ثقيلة مصحوبة بريح باردة تجبر الناس على المكوث بمنازلهم.

أثارت إيقاعات العربة بعض الجيران فطلت رؤوس تستطلع بدافع من شغف وفضول متأصل بين الناس في الأحياء الشعبية.

توقفت العربة أمام منزل صغير، نزل منها بضعة نفر تبدو على وجوههم غلظة غير مألوفة، ثم دقات على الباب، فتحت الزوجة الباب موارباً لتسأل من الطارق؟

ردَّ أحدهم نحن إخوة زوجك وقد جئنا في زيارة من بعيد وسوف نصحبه الآن في رحلة لن تستغرق أياماً معدودات ثم يعود سالماً.

رجف قلبها بشدة، فمع مرض زوجها الشديد وعجزه عن الحركة لفترة قصيرة فلن يصمد أبداً لرحلة طويلة، وبوجل رحبّت بقدومهم.

أسرعت إلى زوجها في فراشه تتعثر في خطاها لتخبره بالقادمين بالخارج، وأخبرته بنيّتهم اصطحابه في رحلة طويلة ورجته متوسلة أن يرفض وأخبرته دامعة بقلق يساورها وخوف يتعاظم بداخلها من هذه الرحلة الشاقة.

سعل بشدة ثم ضحك قليلاً، مهدئاً من روعها وقال: ربما لا يزال في العمر بقية ولا ضير من زيارة للأهل في البلاد البعيدة.

– لكننا نحتاج إليك ونخشى فراقك، وبنوك ماذا أقول لهم في الصباح إن لم يجدوك في فراشك؟

سوف أقبّلهم قبل ذهابي ورجاء لا تُثقلي عليّ.

فرَّت دمعة ساخنة من عينيها فأخذها في حضنه وقبّل رأسها، وقال: لنا موعد لن نُخلفه.

وأسرع لإخوته والعربة في انتظارهم، ركب معهم يصحبه سعاله الشديد ودموع زوجته تنحدر على خدّيها فتحيل برودة ليل يناير إلى لهيب لافح للوجوه.

وما زالت الزوجة، كلمّا هلّ يناير من كل عام تقف على ناصية الشارع تنتظر قادماً لن يأتي أبداً وتعي أن مَن ذهب لن يعود ولا يزال قلبها ينقبض بشدة كلما تناهى إلى سمعها إيقاعات عربات الحنطور.

عباس

"عباس" لم يكن يملك من الدنيا سوى بنية جسدية قوية وطول فارع وسلاطة لسان يُسمع به من وقع بحظ عاثر في طريقه سيئ اللفظ وقبيح الكلم.

عاش خيال الفتونة وتشربت بها نفسه فترة طويلة، تأثراً بأفلام عربي قديمة أو افتتان بقصص وحكايات الفتوات من رفاق الطريق من الأشقياء، فراح يبسط سطوته وسيطرته على حارة لا يقطنها سوى جمع من الفقراء وبعض صغار الموظفين.

والناس على ضيق حالهم وفقرهم كانوا يغفرون له وقاحته وخياله المريض بالفتونة ورأوا فيه تسلية تُعينهم مع الصبر على واقعهم المرير.

عاش "عباس" معتقداً أنه فتوة زمانه، فرآه الجميع مسخاً مشوّهاً لا يساوي في الدنيا أكثر من نبّوته الذي كان يتأبطه ليل نهار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد