أتذكر أنني منذ سنوات عدة وقبل مغادرتي للقاهرة.. كنت أشارك في احتفاليات ما يعرف بيوم اليتيم السنوي في الأول من أبريل/نيسان من كل عام. وهكذا.. فقد كنا في زيارة لأحد دور الأيتام المغمورة والتي لا تملك ميزانية لعمل إعلانات دعائية تلفزيونية ولا حتى لوحات إعلانية في الشوارع لتجذب إليها التبرعات وغيرها.
كنا مجموعة من الفتيات المقبلات على الحياة والمتحمّسات لإضافة عمل نافع للمجتمع وبصمة خير تترك أثراً في نفوسنا ونفوس الأطفال الذين قدر لهم الحرمان من ذويهم.
أعددنا لهذه الزيارة إعداداً جيداً واشترينا كل ما نحتاجه من متطلبات ولعب وهدايا وملابس لإسعاد الأطفال ولإضفاء البهجة على نفوسهم في هذا اليوم..
وذهبت في الصباح الباكر وكلي أمل في قضاء يوم جميل ومليء بالسعادة.. ولكن كما يقال تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. فقد ترك ذلك اليوم في وجداني وقلبي أثراً أقرب إلى الحزن منه إلى الفرحة.. ذلك الأثر الذي ظل محفوراً في ذاكرتي إلى يومنا هذا.
وجدنا هناك العديد من الأولاد والبنات مستعدين – على ما يبدو- لزيارات متوقعة مسبقاً في هذا اليوم.. مهندمين ويبدو عليهم التأنق والاستعداد لاستقبال الزائرين وربما قضوا أمسهم في الاستماع إلى تعليمات مكثفة من المشرفات لضمان حسن التصرف والتأدب في وجود الحضور والزوار.
كان كل ما نفعله هناك يدعو إلى السعادة والبهجة.. نغني ونمرح ونلعب مع الأطفال، نلعب معهم الغميضة أو القط الحيران، ونوزع عليهم الحلوى وأكياس الشيبسي، ونوزع اللعب والملابس الجديدة.
كان الكل فيما يبدو سعيداً، ضاحكاً، إلا هو فقط، كان يجلس وسطنا إلا أن نظرته التي يعلوها الجمود وملامح وجهه الواجمة -التي لا تتبدل حتى مع رؤية الألعاب والحلوى- كانت توحي بأنه في وادٍ آخر غير الذي نحن فيه، لن أنسى أبداً نظرة (أمين) ذلك الولد الصغير ذي الثمانية أعوام.
قد كان كل مَن حوله من الأطفال يتعايشون مع اللحظة، ويقتنصون فرصاً للفرحة وكسر الروتين اليومي، حتى ولو لساعات معدودة قبل أن نرحل وترحل معنا الإثارة والاحتفاليات التي خُصص لها يوم واحد فقط.. فيعودون ثانية لروتين يومي فاتر أو ربما واقع مؤلم لا يملكون تغييره.. إلا هو.. إلا (أمين).. لقد فقد حتى تلك القدرة الفطرية على التأقلم مع الواقع مثل الآخرين، يعلم هو جيداً أن تلك الزيارات السعيدة إنما هي زيارات موسمية، تماماً كزهور الربيع تزهر قليلاً قبل أن تذبل ويسقط ورقاً أرضاً كأن لم تكن.
يعلم هو في قرارة نفسه بحكم خبرة حياتية قصيرة في دار منسية ومغمورة للأيتام أن تلك الوجوه الباسمة التي تتنافس للعب معه الآن ستختفي بعد ساعات وربما لن يراها ثانية.. وأن تلك الألعاب الجديدة التي منحت له سوف يتمكن من اللعب بها فقط في وجودنا لوقت قليل قبل أن تأخذها منهم المشرفات لتحفظها في مكان آمن؛ ليكون اللعب بها بعد ذلك مكافأة فقط لمن يبدي تميزاً في الطاعة وحسن السلوك.
يعلم هو أن ابتسامتي الحانية له تلك وتقربي إليه ورغبتي في الحوار معه أو ضمّه إلى صدري والدوران به في أنحاء الغرفة.. يعلم أن كل ذلك لن يجعل منّي أماً له مدى الحياة، ولن يشعره ذلك إلا بسعادة قصيرة العمر، وربما أختفي من حياته بعدها ولا يراني ثانية -أو هكذا فكر هو- فيقضي بعدها هو الساعات والأيام الطوال يعاني آثار ومرارات الانسحاب بعد لحظات السعادة القصيرة تلك، وربما لا يشفى ولا يطيب إلا بندوب غائرة في الروح.
ربما لهذا السبب جفت مشاعره وتيبست، حتى طفا ذلك الجفاف على ملامح وجهه الطفولي فأصابته بالوجوم الحزين، وباللامبالاة الزائغة، ربما لهذا السبب قد أوصد باب الود في وجهي مراراً كلما حاولت التقرب إليه.. وأبداً لا ألومه على ذلك.
طفل هو، ولكنه فهم الحياة أكثر منّي ربما، عرف أن الطريق الوحيد لتجنب لوعة الفراق هو ألا تسمح أصلاً لفرحة اللقاء أن تجد مدخلاً إلى قلبك الصغير البائس.
يا إلهي.. إن نظرة عينيه تلك تؤرق صحوي ومنامي.. تحمل في طياتها الحزن والألم، وفي جوفها يسكن اللوم.. اللوم لي ولنا جميعاً.. اللوم لاحتفاليات مظهرية تعمل على تدفقنا ضمن المئات إلى أبواب دور أيتام صغار يوماً واحداً في العام نحمل فيضاً عارماً من المشاعر المتكلفة والتعبيرات والهبات قصيرة الأجل؛ لنعود بعدها إلى بيوتنا مفعمين ببعض من الرضا عن النفس والطمأنينة أن قد أدينا ما علينا تجاه تلك القلوب الصغيرة، غير مدركين لحقيقة أن تلك الزيارات المنقطعة والموسمية دون تواصل حقيقي مستمر تحمل دفقات سعادة وقتية زائفة، ضرها أكبر من نفعها، وغير مكترثين لنظرة (أمين) اللوامة التي إن غابت عن أعيننا حيناً فسوف تظل لاحقاً هاجساً يطارد الذاكرة حتى في المنام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.