لم تعُد زيارتها خفيفة على قلب أخيها وأمها، وكلما همت هي بالذهاب للاطمئنان على أمها المسنة، تثاقلت خطواتها لما تعلمه من ضغوط سوف تمارس عليها لتتنازل عن حقها الشرعي في الإرث.
في هذه العزبة القريبة من المدينة؛ حيث عشر دقائق فقط سيراً على الأقدام، تجلس أمام بيتها في الصباح بعد أن هيّأت أطفالها للذهاب إلى مدارسهم، تقف في وداعهم عند باب بيتها، تنظر إلى الغادين من القرية في طريقهم إلى المدينة، فبين تلميذ ومدرس، وبين موظف وعامل، قبلتهم جميعا المدينة القريبة، ويوم السوق يتسابق كل هؤلاء المزارعين وصغار التجار من القرية، يقصدون السوق مع نسمات الفجر، منهن من أخذت بضع دجاجات وبضع بيضات من حظيرة بيتها علها تجد في ثمنها من المال ما يكفيها لتسويقة الأسبوع من البقوليات وبعض خزين البيت، لا داعي لشراء الخضراوات، فالغيط قريب، وفيه من الخير ما يكفي، وما ليس موجوداً عندهم، تقضيه من أرض جاراتها مقايضة كسالف الزمن.
ومنهن من حلبت بقرتها، وأعدت الجبن والزبد والقشدة وبكرت إلى السوق، فبضاعتها رائجة مطلوبة، ولن تجلس هناك في سوق المدينة سوى ساعة واحدة، بعدها تبتاع حاجياتها وتعود أدراجها كي تعد الغداء لأفراد أسرتها الشقيانين بين مدرسة وعمل وحقل.
ومن أهل القرية من اعتلى حِمل البرسيم على حمارته الصبورة، ومضى إلى السوق.. يلزمهم جميعاً عبور الترعة إلى البر الغربي، مستخدمين الصال الحديدي الموثوق من طرفيه بجنزير وحبل كي يسهل حركته بين الشاطئين.
ربما لو عدت بالزمن سبعة آلاف عام، لكان شأن فلاحي مصر كما هو في أغلب شؤونهم، إلا النزر اليسير من تقدم الحياة في العقود الأخيرة.
في غيبة تفكيرها، مر سيد أخوها، بدون سلام ولا نبس ببنت شفة، لمحته هناك بعد أن تجاوزها ببضعة أمتار، لم تتمالك دموعها، أجهشت بالبكاء وهرولت إلى داخل بيتها، فلم يدُر بخلدها يوماً أن أخاها الوحيد يمر من أمام عتبة دارها بلا سلام ولا التفاتة.
أيكون الظلم إلى هذا الحد، أكل ميراثها وقطيعتها، وهى رحمه التي أوصاه بها أبوه قبل موته؟!
وكيف يكون استرضاؤه؟ أفي التنازل عن حقها الشرعي الذي شرعه الله من فوق سبع سماوات؟!
كلا.. تمسح دموعها، وتستدير قافلة إلى مكانها أمام البيت، ولم تزدد نظراتها إلا حدة، ولا موقفها إلا شموخاً.. سآخذ حقي كاملاً غير منقوص.
في العصاري حين ينقضي شغل البيت وتأخذ قيلولتها، ستذهب إلى بيت مولانا، مأذون البلد، مكتبه هناك في المدينة القريبة، رجل عادل يخشى الله، يحكم بالعدل ولا يخالف القانون.
مولانا "راجل عِدِل"، كما يصفه كل من يعرفه عن قرب، يحبه كل الضعفاء، ويخشى الوقوف أمامه كل ظالم آكل للحقوق، والذي لا شك فيه، أن الكل يحترمه ويبجله، فليس له مصلحة في الحكم لهذا أو ذاك، فكم من معضلة حلها، وكم من خصومة أنهاها، وكم من ثأر أطفأ جذوته وأنهى أسبابه!
حتى الحكومة، تستعين به في فض المنازعات بين العائلات الكبيرة؛ لما له من قبول.
إذاً.. هذا هو وقته.
عدت من العمل لأجد مرسالاً من مولانا، يلزم حضورك الجمعة بعد صلاة العصر في منظرة بيت مولانا، بخصوص مشكلة إرث في عزبة القطانين، يشدد عليك مولانا ألا تتغيب؛ حيث يحضر جمع من الشيوخ، وعضو مجلس النواب الحاج علي الفقي.
رتبت أموري على الحضور ما دام الأمر مشدداً، ولشدة ولعي بحضور مشاكل الإرث تحديداً.
في كل القرى المجاورة لا حديث إلا حديث إرث البنات، يستحله الكل بلا تأنيب لضمير، ولا إحساس بوخز من أثر ذنب يجرمه الدين والقانون.
فعلتها إكرام، كسرت أول التقاليد التي نشأت عليها بلدتنا، غادرت قريتها إلى المدينة القريبة، واشتكت أخاها إلى مولانا، مأذون الناحية وشيخ العرب "الاسم الشائع للقاضي العرفي".
تخطت عمها الشيخ حامد مندور، والأصول هنا تقتضي ألا ترفع شكواها لرجل غريب، وها هي قد فعلت.
شأنهم سيناقش هناك في المدينة، أغراب سيطلعون على أسرار بيتهم، وكبيرهم سيجلس أمام الكل، وسيلتزم بحكم مجلس القضاء العرفي.
تدرك إكرام أن الحادث لن يمر مرور الكرام، وأنها بلا شك ستأخذ الطريحة المظبوطة -معناها عندنا علقة ساخنة- ولكنها عزمت على ألا تتراجع.
ما أن أتى مرسال مولانا إلى أطراف المشكلة، حتى قامت القيامة؛ السيد مندور أخوها، ومعاه كبيرهم الحاج حامد مندور على باب الدار، دفعها سيد إلى داخل الدار، وكال لها الضرب والشتائم، وأكمل عليها الحاج حامد، يضربها ويقول لها: بقى مفعوصة زيك تصغرنا قدام الناس وتطلعنا محقوقين، بتتخطى الكبير؟! من كبر كبيره يكبر يا بِت.
ارتكنت إلى الحائط تبكي، فيما غادر عمها وأخوها، بكت ولكنها لم تزدد إلا إصراراً، تعلم مسبقاً أن الأمر لن يتم بسلام.. علقة تفوت ولا حد يموت.
أبويا حامد زعلان إنه هيقعد للأكبر منه، لو كان نفعني ما كنتش رحت لغيره.. تستاهل يابا حامد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.