النموذج الاقتصادي الجديد بالجزائر “2”

فإن القرارات الاقتصادية بالجزائر قد عرفتنا فعلاً بجهل عميق لدى المخولين بقيادة دفة الاقتصاد، وافتقادهم للبوصلة الحقيقية التي يمكنها توجيه ملايين الشباب الجزائري، رأسمال الوطن وصمام الأمان المفضي إلى تنمية مستدامة تحفظ للأجيال المتلاحقة حقها في وطن يسود فيه القانون ولا يتفاوت أبناؤه إلا بالكفاءة بعيداً عن المحاباة والمحسوبية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/29 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/29 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش

تطرقنا في تدوينة سابقة إلى أنه كيف أن الشعبوية تحولت إلى سمة غالبة في تسيير الشأن السياسي والاقتصادي على حد سواء، وكيف أن النموذج الاقتصادي الجديد بعين التحليل والتمحيص لم يكن سوى عمل إنشائي جعل من الجباية المخرج والخلاص الأوحد والوحيد لكل المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الجزائر، في ظل تغييب متعمد لاقتصاد المعرفة ورجالات العلم والتخصص، ما من شأنه تأزيم الوضع الاقتصادي عبر تدهور عجز الخزينة، كما عبرت عنه ذات الوثيقة في صفحتها الثامنة (انظر – النموذج الاقتصادي الجديد – موقع وزارة المالية الجزائرية على شبكة الإنترنت).

الحالة الجزائرية بين فوكا اليابانية والفوكا العالمية

لا شك أن الفرق بيننا وبين اليابانيين شاسع شساعة المسافة الممتدة بين طوكيو والجزائر العاصمة، لكن المتأمل يدرك فروقات جوهرية، أهمها قرار شكَّل منعطفاً حاسماً وبداية حقيقية للمعجزة اليابانية، ألا وهو اختيار اليابانيين لمسارهم الذي انطلق فعلاً عندما قرروا التوقف عن البكاء والنواح في استحضارهم لأكبر كارثة نووية على وجه الأرض، تسببت في مقتل الآلاف من اليابانيين، هنا كانت البداية عبر استلهام الدروس من التاريخ، وعدم البكاء على اللبن المسكوب والتفكير في المستقبل عبر العلم ثم العلم ثم العمل، وفي ذات السياق حيث الإنتاج صفة مميزة لدى اليابانيين سواء كان مادياً أو ثقافياً أو حضارياً، وبالضبط في التاسع والعشرين من مايو/أيار سنة 2009، صدر عن دار النشر اليابانية (شينتشوسا) رواية للمؤلف المعروف هاروكي موراكامي، وهي قصة حدثت فصولها سنة 1984 بعنوان (إيتشي كيو هاتشي يون) أي (1 كيو 84)، يتناوب على سرد الوقائع فيها ثلاثة أبطال هم آومامه وتنغو وأوشيكاوا، وتبدأ الرواية عندما يشير سائق التاكسي الذي يقل أحد أبطال الرواية آومامه، بضرورة أخذ طريق اجتنابي هرباً من زحمة الطريق السريع، لتكتشف بطلتنا أشياء جديدة في حياتها، من بينها قصة شغلت الرأي العام الياباني وتمثلت في اشتباك مسلح بين مجموعة دينية والشرطة اليابانية، حيث تبين لبطلتنا أنها تعيش في العالم الآخر أو ما سمّته العالم الموزاي الذي أطلقت عليه 1 كيو 84 (إيتشي كيو هاتشي يون)، والحقيقة أن اكتشافها لهذا العالم بمجرد تغيير المسار مشابه تماماً لاكتشاف حكومتنا طريقاً آخر سمّته النموذج الاقتصادي الجديد، مستغربة من العالم الموازي الذي ساهمت في تكوينه أكثر من غيرها بقرارات خبط عشواء أتت على مكتسبات اقتصادية كثيرة.

ليست آومامه وحدها باكتشافها للعالم الموازي وكيف أنها لم تنتبه للتغيرات المتسارعة في مجتمعها من تذكرني بالحالة الجزائرية، ففي ذات الرواية الفتاة فوكا وهي شابة جميلة في السابعة عشرة من عمرها (الجزائر بلغة المحللين في عمرها الـ18؛ إذ سن التلفزيون الجزائري سنة حميدة بمقارنات اقتصادية بين فترتين 1962 – 1999 و1999 – 2017 أي 18 سنة) شخصيتها غامضة وغريبة وتتسم بكونها غير مبالية؛ حيث عاشت طفولة سوداوية استطاعت أن تفر من قبضة جماعة دينية متطرفة لما كانت في العاشرة من العمر، وإذا كانت الرواية بأبطالها المتعددين كالأرملة الغنية وكوماتسو المحرر في دار النشر وغيرهم، قد اعتبرت واحداً من أجمل الأعمال الأدبية التي تعرف القارئ بالثقافة اليابانية، فإن القرارات الاقتصادية بالجزائر قد عرفتنا فعلاً بجهل عميق لدى المخولين بقيادة دفة الاقتصاد، وافتقادهم للبوصلة الحقيقية التي يمكنها توجيه ملايين الشباب الجزائري، رأسمال الوطن وصمام الأمان المفضي إلى تنمية مستدامة تحفظ للأجيال المتلاحقة حقها في وطن يسود فيه القانون ولا يتفاوت أبناؤه إلا بالكفاءة بعيداً عن المحاباة والمحسوبية.

ولأن الغوص في الاستقراء يتطلب إسقاطات متعددة، وجب علينا كجزائريين اليوم الرقي فوق مستوى الطرح التسطيحي للقرارات التي تهم وطننا ومستقبله، فالحالة الجزائرية القريبة من الشابة اليابانية فوكا وإن كانت تكبرها بسنة، تعبر بصدق عن حاجتنا كشعب لفهم الشخصية الجزائرية، التي تتجلى اليوم في طبقة مسيرة تائهة، ونخبة مستقيلة، وشريحة عريضة تجتر التاريخ وتتنكر للواقع والمستقبل.

عقدة الوفرة وتكريس الفوكا

كثيرة هي الظروف والملابسات التي أدت لعدم استغلال فرصة الوفرة المالية التي مرت بها الجزائر، بعضها مرتبط تماماً بالمستوى الفكري والمعرفي للقائمين على الاقتصاد الوطني، وبعضها الآخر في تقديري المتواضع مرتبط بسيكولوجيتنا كشعب له خصائصه وثقافته وميزاته، والحقيقة أن إدارة الوفرة واحد من إخفاقات العقل الجزائري الذي يحسن إدارة الندرة ولا يجيد إدارة الوفرة، فيما أعتبره من منظور التعليم والتكوين بوطننا امتداداً لمنهاجنا الدراسية خاصة في التخصصات ذات الصلة التي لا تولي لإدارة الأزمات وتحليل المخاطر إنشاً من الاهتمام والتكوين، لذا تجد التخبط سمة غالبة لدى الإدارات الجزائرية على اختلاف مستوياتها عندما يتعلق الأمر بالمستجدات المختلفة، خاصة المتلاحقة والسريعة، تخبط يغذيه إغفالنا عن الحاجة المتزايدة للإلمام بأدبيات الإدارة الحديثة، خاصة في جزئية الندرة والوفرة، والتاريخ شاهد على طلب نبي الله يوسف -عليه السلام- من عزيز مصر أن يوليه إدارة الوفرة حتى يتصدوا مع بعض لأزمة الندرة اللاحقة، وهذا ما أسهم في تجنيب الناس تبعات القحط والمجاعة التي تأتي على أرواح بشرية عزيزة لا يمكن استردادها، عبر مصارحتهم وإبلاغهم ابتداء والتعاون معهم وإشراكهم انتهاء.

تتوالى الرهانات في العالم، ويختلف التعامل معها حسب رغبة الشعوب وما تريد أن تكون عليه، فالأمم في العالم إما واعية أو عابثة؛ لذا تواجه الإدارات في الدول المحترمة اليوم ما يسمى الفوكا VUCA، وتعني volatility، uncertainty، complexity and ambiguity، أي التقلب، وعدم اليقين، والتعقيد والغموض، فيما اعتبره الوصف الأنسب للحالة الجزائرية بكل أبعادها، خاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح فوكا نشأ ابتداء في مناهج التعليم المتعلقة بالحروب في الجيش الأميركي لوصف الظروف الناجمة عن الحرب الباردة، وقد اعتمد هذا المصطلح رسمياً لدى الحكومات والشركات والمنظمات في العديد من الصناعات والقطاعات لتوجيه القيادة والتخطيط الاستراتيجي؛ لذا يعتبر إدراك وقياس مكونات الفوكا في المجتمعات ومحيطها الإقليمي والعالمي، عملاً استباقياً لوضع الاستراتيجيات وإدارة الأزمات والتخطيط لاستعادة القدرة على الأداء الجيد خلال وبعد التعرض للأزمات، وهو ما أكاد أجزم بأنه لم يسترعِ انتباه مَن أعدوا الوثيقة باللغة الفرنسية التي عنوانها النموذج الاقتصادي الجديد بالجزائر، خاصة عندما تتحدث الوثيقة عن تطوير السياحة وقطاع البنوك.

هل تستطيع الجزائر أن تقول لا؟

عوداً على ذي بدء من الحديث على اليابان، يشهد التاريخ والعالم، خاصة الأميركيين على واحد من الإنتاجات اليابانية التي تسببت في كره الأميركيين لشخص حاكم طوكيو ووزير النقل سابقاً وأحد مؤسسي شركة سوني القومي الياباني إيشيهارا شنتارو، صاحب كتاب "اليابان التي تستطيع أن تقول لا"، وهو القائل "الواقع أن التطور التكنولوجي هو الذي كان يؤدي دائماً نحو المرحلة التالية، وقد حدث ذلك في كافة العصور بما فيها العصر الحجري والبرونزي، فقد كانت التكنولوجيا تمهد السبيل دائماً نحو الحضارة، فتزدهر الثقافات بناء على تلك الأسس".

واستكمالاً لمحاولة فهم لا اليابانية، يجيب الكتاب عن دوافع شنتارو للجهر بين بني قومه أن يقولوا لأميركا لا، من منطلقات عديدة أبرزها أن الترسانة الصاروخية الأميركية لا تستطيع إلى يومنا هذا الاستغناء عن الرقائق اليابانية الموجهة لهذه الصواريخ، ولأننا بصدد الحديث عن الحالة الجزائرية لا بأس من التساؤل كيف يمكن للجزائر أن تقول لا؟

إذا سلمنا مؤقتاً بأننا نعيش حالة فوكا جزائرية بأبعادها الأربعة المتمثلة في التقلب، وعدم اليقين، والتعقيد والغموض، فإننا أمام حتمية توسيع مشاركة كل الجزائريين في مواجهة تحدي الوجود والاستمرار والرقي، بدون إقصاء ولا تصنيف، فنحن لا نريد للجزائر أن تقول لا وقمحها وحليبها ودواؤها آت من هنالك حيث الإملاءات الممتدة في عمق الضعف والترهل الاقتصادي الوطني، ولعلها لاء دولية باهظة الثمن، ألمت خسراناً وتركيعاً لعديد الدول بالعالم، فإن لاء المحلية هي مربط الفرس وبداية التصويب الملح، ابتداء من لا للعشوائية والشعبوية والعنترية في القرارات والخطط، وصولاً إلى لا لتهميش الكفاءات والاكتفاء بأنصاف الحلول، فالجزائر الولادة بها ملايين العقول التي تستطيع أن تصل بالجزائر إلى مصاف دول كنا في السبعينات -اقتصادياً وفكرياً- أحسن منها بكثير على غرار كوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل، ولكل ذي ضمير وغيرة على الوطن نهمس: لنقل لا للفوضى والمزايدة على بعض بمنسوب الوطنية والإسهام في تنمية الوطن، قبل أن نقول نعم صاغرين للبنك العالمي والمنظمات الاقتصادية الدولية في بلد أقرض البنك الدولي والبنك الإفريقي ثم اقترض منهما، ولله في خلقه شؤون.

"عندما ينسى شعب ما كيف ينتج سلعاً، فإنه لن يكون قادراً على أن يوفر لنفسه حتى احتياجاته الأساسية"

اليابان يمكنها أن تقول لا – أكيو موريتا *

* ولد موريتا لعائلة تعمل في إنتاج الساكه (المشروبات الكحولية كما تسمى باليابان) والميسو (صنف متبل) وصلصة الصويا في شبه جزيرة تشيتا، محافظة آيتشي.

درس في جامعة أوساكا ليصبح فيزيائياً، وعمل كضابط في البحرية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، وتعرف على شريكه ماسارو إيبوكا في لجنة الأبحاث الحربية اليابانية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي 7 مايو/أيار 1946 أسسا معاً شركة طوكيو التقنية للاتصالات عن بعد (Tokyo Tsushin Kogyo Kabushiki Kaisha) والتي تحولت فيما بعد ليصبح اسمها سوني.

في مطلع التسعينيات، اشتهر اسم موريتا بسبب مشاركته في تأليف الكتاب المسبب للجدل: اليابان التي تستطيع أن تقول لا مشاركة مع شينتارو إيشيهارا، حيث اشتركا معاً في انتقاد الطريقة الأميركية لإدارة الأعمال، وفي المقابل حضّا اليابان على أن تكون أكثر استقلالية فيما يتعلق بدورها في علاقاتها الخارجية وطريقتها في إدارة الأعمال.

من أشهر مؤلفاته كتاب بعنوان "لا تهتم بالعلامات المدرسية".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد