كنت منشغلاً بتحويل الصفحة الثقافية -كما في كل عام- إلى صفحة "رمضان كريم"، في واحدة من أحب الصحف التي عملت فيها طويلاً إلى قلبي، قبل يومين من حلوله المبارك، حين دخل أبو علي منزعجاً وهو يتمتم متسائلاً: "يعني معقولة العين العراقية المكلفة مراقبة هلال الشهر الفضيل تراه بخلاف كل دول العالم 3 مرات في غرة الشهر ومثلها في نهايته، ليصبح لدينا 3 بدايات لشهر الصيام و3 أعياد في ختامه!
بكل تأكيد، فإن اثنين منهم كذبة، والثالث على المحجة البيضاء والصراط المستقيم يصوم -كما أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم- لرؤيته ويفطر لرؤيته حقاً ﻻ ادعاء، من غير أبعاد سياسية وﻻ خلفيات طائفية تفوّت على الصائمين يومين أو 3 أيام، عمداً ﻻ سهواً، في كل عام.
والذنب كاملاً برقبة الرائي الكذوب والمرائي اللعوب والقاضي الشرعي الكذوب إلى يوم الدين، إﻻ إذا كان الهلال العراقي كواقعه مصاباً بالشيزوفرنيا، فضلاً عن التلسكوبات المسؤولة عن مراقبته وفق منهج المحاصصة والتوافق بين المكونات!" .
قلت: طوّل بالك أبو علاوي، هذا العراق وهذا بعض فوضويته! وﻻ يهمك، ماذا تقترح لصفحة "رمضان كريم" هذا العام؟
قال: أولاً، زاوية "حدث في رمضان"، وزاوية "شهر الصيام حول العالم"، إضافة إلى عمودك الثابت "رمضانيات" و"مشاهير أسلموا في رمضان"، و"فتاوى معاصرة للصائمين"، و"الصائم يسأل والطبيب يجيب"، و"فوائد الصيام الصحية"، فضلاً عن إمساكية العدد من "إمساك يا صائمين يرحمكم الله إمساك" و"حتى موعد الإفطار وصلاة العشاء"!
أطرق برأسه قليلاً وهام بعيداً روحاً وجسداً في عالم الذكريات وهو ينصت بكل جوارحه لرائعة محمد عبد المطلب "رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان، أهلاً رمضان قولوا معانا، تغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك، وفي السنة مرة تزورنا وبنستناك…" من ألحان محمود شريف، وكلمات حسين طنطاوي، المنسابة من راديو "قيثارة" الذي يحتفظ به منذ زمن بعيد، يوم كان عندنا صناعة وطنية حقيقية ما قبل العصر الميليشياوي المسخ المقاد دولياً وإقليمياً كالجراد والذي -وبعد أن سرق مقدرات البلد وخيراته بأسرها وباعها تفصيخاً- تحول إلى اختطاف المواطنين الأبرياء لتمويل نفسه وأخذ الفدية عن جثثهم ﻻ عن سلامتهم، وبالعملة الصعبة.
ليخرج بين فينة وأخرى كبراؤهم الذين علَّموهم السحر على بعض الفضائيات الوضيعة التي تمارس عملها من مال السحت الحرام والمخدرات وتجارة السلاح والأعضاء البشرية وتهريب الآثار وتزوير العملات وحماية صالات القمار ودور البغاء وعصابات التسول، ومن بينها فدية المخطوفين المغدورين، مطالبين بمحاربة جرائم الاختطاف والانفلات الأمني وفرض سلطة الناي والقانون بالقوة ومكافحة الفساد الإداري والمالي والسياسي في البلاد.. لك تروحون فدوة لمارلين مونرو وسهير زكي وللنعجة دولّي!
زميلي الحبيب المبدع أبو عبيدة، كان يعد صفحته الرائعة "فلكلوريات" مستعرضاً عادات رمضان الجميلة في العراق من زاخو إلى الفاو، وصلاة التراويح، والطعمة بين الجيران، وابتهالات الشهر الفضيل، وحِلَق الذكر والتسبيح وتلاوة القرآن، وأجمل عادات سكان الأقضية والنواحي والمحافظات المتوارثة في ليله ونهاره، وموائد الإفطار، ولعبة المحيبس الشعبية، ونوادر المسحراتية، وطرائف الأدباء والشعراء في أماسيهم الجميلة، وحكاية مدفع الإفطار، وفانوس رمضان، وحلويات وعصائر عراقية خاصة للصائمين، وأهمها الزبيب والزلابية والكنافة والبقلاوة والقطايف!
كنا وبعد أن نفرغ من عمل مضنٍ في الصحيفة وتحويلها إلى قرص مدمج معدٍّ للطبع، نذهب معاً إلى أقرب مسجد لنفطر ونصلي ونتحاور في صفحات مواضيع عدد اليوم التالي في المقهى المجاور وكلنا أمل أن ﻻ عبوة شرقية باطنية -تثير الفتن والقلاقل للتعجيل بظهور المنقذ- وﻻ صاروخ غربياً إمبريالياً وﻻ مفخخة -خوارج يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الكفر، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرأون القرآن ﻻ يجاوز حناجرهم، شعورهم مرخاة كشعور النساء، أسماؤهم الكنى ونسبتهم القرى ﻻ يفون بعهد وﻻ ميثاق، يدعون إلى الحق وليسوا من أهله- تدوي ساعة الإفطار أو بعده أو قبله لتعكر صفو حياتنا ولتمزق أشلاءنا وتفرقنا بعضنا عن بعض.
ولكن هيهات! استُشهد زميلنا أبو عمر بعد اختطافه فجراً وهو في طريق عودته من المسجد إلى داره المستأجرة، ليعدّ صفحة "سلامة يا وطن" خلف أسوار بقايا مواطن ووطن! أودعناكم أغاتي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.