كشف تقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني أنَّ الحكومة البريطانية انتهجت سياسة "الباب المفتوح" التي سمحت لليبيين المنفيين والمواطنين البريطانيين الليبيين بالانضمام إلى انتفاضة عام 2011 التي أطاحت بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي مع أن بعضهم خاضعٌ لقراراتِ مراقبةٍ مُتعلقة بمكافحةِ الإرهاب.
وقال العديد من المقاتلين السابقين الذين عادوا الآن إلى المملكة المتحدة، لموقع ميدل إيست آي، إنَّهم تمكَّنوا من السفرِ إلى ليبيا "دون أي تحقيقات"، تزامناً مع مواصلة السلطات التحقيق حول خلفية الانتحاري البريطاني الليبي الذي قتل 22 شخصاً في هجوم يوم الاثنين، 22 مايو/أيار، في مدينة مانشستر البريطانية.
وكان من المعروف أيضاً أنَّ سلمان العابدي (22 عاماً)، المولود في بريطانيا لأحد المعارضين المنفيين الذين عادوا إلى ليبيا في خضم الثورة ضد القذافي، قد قضى وقتاً في الدولة الواقعة شمالي إفريقيا عام 2011 وتردَّد عليها في مناسباتٍ عدة لاحقة.
وقالت الشرطة البريطانية إنَّها تعتقد أنَّ مُنفذ العملية الذي عاد إلى مانشستر قبل أيامٍ قليلة من الهجوم كان جزءاً من شبكةٍ إرهابية اعتقلت الشرطة منها 6 أشخاص، من بينهم شقيق عابدي الأكبر منذ يوم الاثنين.
وقالت وزيرة الداخلية البريطانية، آمبر رود، إنَّ العابدي كان معروفاً للأجهزة الأمنية، بينما قال عاملٌ محلي لشبكة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إنَّ عدداً من الأشخاص أبلغوا عنه الشرطة عن طريق الخط الساخن لمكافحة الإرهاب.
وقد أعلنت قوة أمنية تابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية، الأربعاء 24 مايو/أيار، 2017، إلقاءها القبض على شقيق منفذ الهجوم الإرهابي الذي شهدته مدينة مانشستر البريطانية، أمس الأول الإثنين، مشيرة إلى أنه اعترف بانتمائه وشقيقه لتنظيم "داعش" الإرهابي، وفق تقرير سابق لعربي بوست.
وتُشير المصادر التي تحدَّثت إليها "ميدل إيست آي" إلى أنَّ الحكومة سهَّلت سفر المنفيين الليبيين والسكان والمواطنين الليبيين البريطانيين الذين كانوا يريدون محاربة القذافي بما في ذلك بعض الذين اعتُبِروا تهديداً أمنياً محتملاً.
دون أية تحقيقات
قال مواطن بريطاني من أصلٍ ليبي وُضِعَ تحت المراقبة – تحت الإقامة الجبرية فعلياً – بسبب المخاوف من انضمامه للجماعات المسلحة في العراق إنَّه "صُدِمَ" من أنَّه تمكَّن من السفرِ إلى ليبيا عام 2011 بعد فترةٍ وجيزة من رفع قرار المراقبة.
وأكد المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "سُمِحَ لي بالذهاب دون أي تحقيقات".
وقال إنَّه التقى في لندن بالعديد من الليبيين البريطانيين الآخرين الذين رُفِعَت عنهم أيضاً قرارات المراقبة عام 2011 مع تكثيف الحرب ضد القذافي، إذ شنَّت كلٌ من المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة ضرباتٍ جوية ونشرت جنود القوات الخاصة لدعم المتمردين.
وقال المصدر: "لم يكن لديهم جوازات سفر، كانوا يبحثون عن أوراقٍ مزيفة أو وسيلةٍ لعبورِ الحدود بصورةٍ غير قانونية".
وأضاف أنَّه في غضون أيام من رفع قرارات المراقبة، أعادت السلطات البريطانية جوازات سفرهم.
وقال: "هؤلاء ينتمون للجيل الأقدم من "الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة"، وكانت السلطات البريطانية تعرف ما يقومون به". والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة هي جماعةٌ مسلحةٌ إسلاميةٌ مُعادية للقذافي تأسَّسَت عام 1990 من قدامى المحاربين الليبيين في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
وأدرجت الحكومة البريطانية الجماعة الإسلامية المقاتلة كمنظمةٍ إرهابيةٍ محظورة عام 2005، ووصفتها بأنَّها تسعى إلى إقامة "دولة إسلامية متشددة"، وأنها "جزءٌ من الحركة الإسلامية المُتطرِّفة التي تستلهم عملها من تنظيم القاعدة". ونفي أعضاءٌ سابقون في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة أن يكون للجماعة أي صلةٍ بتنظيم القاعدة، وقالوا إنَّها لم تلتزم إلا بإزاحةِ القذافي عن السلطة.
ووصف بلال يونس، وهو مواطن بريطاني آخر ذهب إلى ليبيا، كيف أُوقِفَ بموجب صلاحيات المادة السابعة من قانون مكافحة الإرهاب عند عودته إلى المملكة المتحدة بعد زيارة البلاد في أوائل 2011. وتسمح المادة 7 لموظفي الشرطة والهجرة باحتجاز واستجواب أي شخصٍ يمر عبر الحدود في الموانئ والمطارات لتحديد ما إذا كان متورطاً في أعمالٍ إرهابية.
وقال إنَّه سُئِلَ من قِبَلِ ضابط مخابرات في المكتب الخامس، وهو وكالة الأمن الداخلي في المملكة المتحدة: "هل أنت على استعداد للذهاب إلى القتال؟".
وأوضح لميدل إيست آي: "بينما استغرقت وقتاً للعثور على جواب، قال لي إنَّ الحكومة البريطانية ليس لديها مشكلة مع الذين يُقاتلون ضد القذافي".
المخابرات الحربية "تُنظِّم" السفر
وفي أثناء سفره إلى ليبيا في مايو/أيار 2011، اتصل به ضابطان من رجال شرطة مكافحة الإرهاب في صالة المغادرة، وأخبروه بأنه إذا كان مسافراً للمشاركة في الحربِ فسيرتكب جريمة.
ولكن بعد أن قدَّم لهم اسم ورقم هاتف ضابط المخابرات الحربية الذي تحدَّث إليه في وقتٍ سابقٍ، وبعد مكالمة هاتفية سريعة معه، سُمِحَ له بالذهاب.
وقال إنَّه عندما كان ينتظر الطائرة، اتصل به نفس ضابط المخابرات ليقول له إنَّه قد "دَبَّرَ الأمر".
وأضاف أنَّ "الحكومة لم تضع أي عقبات في طريق الأشخاص الذين يتوجهون إلى ليبيا. وكانت الغالبية العظمى من البريطانيين في أواخر العشرينات، وكان من بينهم من هو في سن الـ18 و19 عاماً. وكانت الأغلبية التي ذهبت من هنا من مدينة مانشستر".
لكنَّه قال إنَّه يعتقد أنَّ من غير المحتمل أن يكون العابدي الذي كان يبلغ الـ16 عاماً في ذلك الوقت قد جُنِّدَ كمقاتل. وقال: "إنَّ الرجال الذين كنت أقاتل معهم لن يضعوا صبياً يبلغ من العمر 16 عاماً في أي مكانٍ بالقرب من خط المواجهة".
وأضاف يونس أنَّه لا يعتقد أنَّ سياسة السماح لليبيين البريطانيين بمحاربة القذافي مرة أخرى كانت عاملاً مساهماً في هجوم يوم الاثنين، مشيراً إلى أن تنظيم داعش لم يكن موجوداً في البلاد آنذاك، وقال إنَّه لا يأسف لقراره في المشاركة في القتال.
وأضاف أنَّ "ما ألهمني بالذهاب إلى ليبيا هو حرية المدنيين، ولا يُمكن أن يتحوَّل ذلك إلى قتلٍ الأطفال".
وقال أحد البريطانيين الليبيين من مانشستر، ممن رغبوا أيضاً في عدم الكشف عن أسمائهم لموقع ميدل إيست آي إنَّه سافر بشكلٍ متكررٍ إلى ليبيا خلال ثورة 2011 للمشاركة في أعمال المساعدات الإنسانية.
وقال: "لم أُمنَع من الذهاب إلى ليبيا، ولم أتعرَّضَ للإيقاف عندما حاولت العودة".
وأضاف الرجل أنَّه التقى سلمان عابدي بالصدفة في مسجدهم المحلي بحيّ دزبري، لكنَّه "كان منعزلاً"، ولم يكن عضواً نشطاً في الحي.
ووصف شخصٌ آخر يعرف العابدي بأنَّه "مُندفع" له سمعة بارتكاب جريمة صغيرة قبل ذلك. بينما قال آخر: "أنا مندهش من هذا، فقد كان مثال الولد الهادئ، شديد التهذيب معي دائماً. أخوه إسماعيل أكثر معشراً واجتماعية منه، أما سلمان فكان شديد الهدوء؛ كم هو بعيدٌ عن احتمال ارتكاب هذا الفعل"، وفق تقرير سابق لعربي بوست.
القوات الخاصة البريطانية تُقدِّم التدريب
ووصف أحد الليبيين البريطانيين الذى تحدَّث لموقع ميدل إيست آي كيف أنَّه قام بـ"أعمال العلاقات العامة" للمتمردين في الأشهر التي أُطِيحَ فيها بالقذافي وقُتِلَ في نهاية المطاف في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
وقال إنَّه كان يعمل لتحرير أشرطة الفيديو التي تُظهِر مرتزقة القوات البريطانية الجوية الخاصة والقوات الخاصة الأيرلندية أثناء تدريبها المتمردين الليبيين في بنغازي، وهي المدينة الشرقية التي اندلعت منها الانتفاضة ضد القذافي.
وقال: "لم تكن أشرطة فيديو رخيصة الإنتاج مع أناشيدٍ باللغةِ العربية، لقد كانت أشرطة فيديو ماهرة، وأفلاماً جذَّابة ومحترفة، كنَّا نُظهِر فيها القطريين والإماراتيين يدعمون القوات التي كانت تحصل على تدريباتٍ رفيعة المستوى من القوات البريطانية الخاصة".
وكلَّفَه قادة المتمردين بتدريبِ الشباب الليبيين على استخدام الكاميرات حتى يتمكَّنوا من بيعِ العمليات المُصوَّرة إلى وسائل الإعلام الدولية.
والتقى في إحدى مهمات معسكر قاعدة للمتمردين في مدرسةٍ بمدينة مصراتة بمجموعةٍ من نحو 8 شباب من الليبيين البريطانيين. وبعد مزاحٍ على لهجاتهم الشمالية اكتشف أنَّهم لم يأتوا إلى ليبيا من قبل.
وقال: "كانت أعمارهم على ما يبدو 17 أو 18 عاماً، وربما لم يتجاوز الواحد منهم 20 عاماً، وكانوا يتحدثون بلهجاتِ مدينة مانشستر الصحيحة. كانوا يعيشون ويقاتلون هناك ويفعلون كل شيء".
ووفقاً للوثائق التي استُرجِعَت من المكاتب المنهوبة التابعة للمخابرات الليبية بعد سقوط القذافي من السلطة عام 2011، قامت الأجهزة الأمنية البريطانية بقمع المعارضين الليبيين في المملكة المتحدة كجزءٍ من الاتفاق، وكذلك ساعدت في تسليم اثنين من كبار قادة الجماعة المقاتلة؛ هما عبدالحكيم بلحاج، وسامي السعدي، إلى طرابلس حيث يُزعم أنَّهما تعرَّضا للتعذيب.
وتوصل موقع ميدل إيست آي إلى أنَّ بلحاج عاد بعد ذلك إلى ليبيا وكان شخصيةً بارزةً في الانتفاضة ضد القذافي، في حين كُلِّفَ أحد المنفيين الليبيين السابقين الآخرين، والذي خَضَعَ لقرارِ مراقبةٍ في المملكة المتحدة، فيما بعد، بتوفير الأمن لكبار الشخصيات الزائرة بمن في ذلك رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، ووزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون.
عندما بدأت الثورة، تغيَّرت الأمور
قال زياد هاشم، أحد أعضاء الجماعة الليبية المقاتلة، الذي مُنِحَ اللجوء في المملكة المتحدة عام 2015 إنَّه سُجِنَ لمدة 18 شهراً دون تهمة وفُرِضَت عليه الإقامة الجبرية في منزله لمدة 3 سنوات أخرى بناءً على معلوماتٍ يُعتَقَد أنًّها قدمتها المخابرات الليبية.
لكنَّه قال: "عندما بدأت الثورة، تغيَّرت الأمور في بريطانيا، وكانت طريقة التحدث معي ومعاملتي مختلفة، وعرضوا إعطائي العديد من المزايا، حتى وصل الأمر إلى تصريح غير محدِّد المدة بالبقاء أو المواطنة".
وكانت قرارات المراقبة قد أُدخِلَت كجزءٍ من تشريعات مكافحة الإرهاب التي صِيغَت في أعقاب تفجيرات لندن عام 2005.
وسمحت القرارات للسلطات بتقييد أنشطة الأشخاص المشتبه في ضلوعهم بأنشطة مرتبطة بالإرهاب، من خلال مطالبتهم بالبقاء في عنوان مسجل لمدة تصل إلى 16 ساعة في اليوم، وإخضاعهم لوضع العلامات الإلكترونية، والحد من استخدامهم الاتصالات الهاتفية والإنترنت، ومنعهم من الاجتماع أو التواصل مع أشخاص آخرين يُعتَبَرون مصدر قلق.
وقد تعرَّض ما لا يقل عن 50 شخصاً لهذا الإجراء من بينهم 12 من المنفيين الليبيين على الأقل.
واستُبدِلَت قرارات المراقبة بقانون "إجراءات منع الإرهاب والتحقيق فيه"، التي تسمح للسلطات بفرض العديد من القيود نفسها مع الحد من مدتها إلى عامين وذلك في عام 2011.
وقالت وزارة الداخلية لموقع ميدل إيست آي إنَّها لن تُعلِّق على حالات فردية. وأضافت أن هذه الإجراءات وسيلةٌ قويةٌ وفعَّالةٌ للتعامل مع المشتبه في كونهم إرهابيين والذين لا يُمكن ملاحقتهم أو ترحيلهم.
وقيل إنَّ الترتيبات التي تضم الشرطة ووزارة الداخلية ودائرة الأمن قد وُضِعَت في عام 2011 في أثناء الانتقال من قرارات المراقبة إلى قانون "إجراءات منع الإرهاب والتحقيق فيه" لضمان الحفاظ على الأمن الوطني.