نَصٌّ لا يُبهر

أما الآن دعني أُفشي لك سراً في كلِ مرةٍ أبتدئ فيها نصاً أُقدر له أن يُكون مُبهراً، يخطف الألباب وتُحلق معه الأرواح، نصاً لا يستطيع أحدٌ مجاراة أفكاره ولا محاكاة عباراته ينتهي به الأمر مُمزقاً تذروه الرياح، مما يدفعني لأتساءل أكان هذا حقاً لنقص في بلاغة لفظه أو سطحيةٍ في فكره؟! أم أن مرده رغبةٌ طاغيةٌ تدفع نحو كمال لسنا ببالغيه، رغبةٌ في أن أكون مبهرةً على مقاييس حُددت لنا سلفاًا؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/25 الساعة 04:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/25 الساعة 04:19 بتوقيت غرينتش

عزيزي القارئ، إذا كنت راغباً في أن تعتريك دهشة وأن تنقطع أنفاسك من فرط الجمال وتدفق الأفكارِ فالنصُ هذا ليس مُبتغاك وتعتذر كاتبته -أنا- عن تخييب آمالك وردك خائبَ الظن، أما إن كنت مصراً على أن تقرأ؛ فأفسح لي مجالاً أخبرك أمراً؛ هذا نصٌ عادي لا يخضع لمقاييس جمالكم، نصٌّ بقليل من الاجتهاد وبعضٍ من الفكرِ أنت قادرٌ على حياكة أجمل منه والإتيان بأفكار تنفع بشريتكم -المزعومة- أكثر مما يفعل.

أما الآن دعني أُفشي لك سراً في كلِ مرةٍ أبتدئ فيها نصاً أُقدر له أن يُكون مُبهراً، يخطف الألباب وتُحلق معه الأرواح، نصاً لا يستطيع أحدٌ مجاراة أفكاره ولا محاكاة عباراته ينتهي به الأمر مُمزقاً تذروه الرياح، مما يدفعني لأتساءل أكان هذا حقاً لنقص في بلاغة لفظه أو سطحيةٍ في فكره؟! أم أن مرده رغبةٌ طاغيةٌ تدفع نحو كمال لسنا ببالغيه، رغبةٌ في أن أكون مبهرةً على مقاييس حُددت لنا سلفاًا؟!
سأعترف لك بأن ذاك كله كان لتلك الرغبة المُلحة في أحايين كثيرة.

بدايةً ظننت أن الأمر هذا مقتصرٌ علي وعلى نصوصي ثم ما لبثت أن وجدتها ظاهرةً تفشت في جيل كاملٍ فأفسدته، جيلٍ لا يُقدر إلا ما ينفغر له الفوه، يُمجد قصص الحب الأسطورية ويرى ما دون العنقاء محض هُراء، جيلٍ لكي ينظر لعملٍ بعين رضا يجب على هذا العمل أن يكون خارج حدود الزمكان، عليه أن يكون خارقاً خلاباً يَنظر إليه ويُقدر أنه ومن حوله غير قادرين على الإتيان بمثله، لم يعد يُقدر جميل الود ومُستصغر الإحسان، نسينا أن الفسيلة قد تكون المُنجية وأن الكلمة الطيبة من أعظم الصدقاتِ والتبسم مُفتاح للنجاة.

أصبحنا نُهمل ما دون المُبهر ونرى ما عداه عادياً لا يرقى لأن نتأمله ونأخذ منه عبرةً وعظةً، نراه لا يستحقُّ ثناءً ولا إطراءً حتى في الأدب قدمنا البديع على المعنى فتجد لفظاً بلا معنى.

لم يقتصر الأمر على انبهارٍ وحسب وإنما امتد ليُشعل فينا رغبة التقليد ومحاولة السير على النهج فلم يعد يكفينا أن نحقق إنجازاً لنسعد وإنما أصبحنا نتسابق لنضفي عليه بهاء العظمة ونُضخم منه -ادعاءً- لعلنا نلحق بركبهم ونماشي صنعتهم فإذا ما فشلنا في مُجاراتهم سخطنا على أنفسنا التي لا تستطيع إبهاراً ولا تقدر على إدهاشٍ، نتبرم منا ونحط من قدورنا.

ها نحن نُحسن ونُجيد، نبذلُ قصارى جُهدنا ثم بنظرةٍ واحدةٍ غيرِ عادلةٍ نهدم ما بنينا فقط لأنه ليس بالمستوى الذي قُرر لنا مسبقاً ولا يتماشى مع المعايير التي وضعوها للنجاح.

ستسأل الآن من هؤلاء الذين وضعوا هذه المعايير الفلكية للنجاح؟ من وضع قاعدة "لكي تنجح لا بد أن تكون جاراً للثُريا وتشرئب الأعناق فلا تراك"؟ لعلك تُجيب نفسك بـ "هم"، أي "هم" تقصد إذاً؟!

الحقيقة أن هم هذه ما هي إلا نحن، انسقنا وراء وسائل تُضخم الأحداث وتُضفي عليها شيئاً من هلامية، انسقنا وراء قصص جُلها مكذوب وصادقها غُير وجهه فأصبح باطلاً لا يُرام بمعرفته حق.

عزيزي، نحن ضحايا أنفسنا، ضحايا رغبتنا في التجميد والشهرة.

أما الآن فحديثي للعاديين أمثالي الذين لا طاقة لهم يجارون بها مغيري الأرض ومبدلي وجهها، لا رغبة لهم في حب أسطوري تتحدث عنه الصحف وتولع بمثله المراهقات ولا إنجازٍ يتردد صداه في مشارق الأرضِ ومغاربها، العازفين عن الخلود بين طيات صفحات التاريخ، الراغبين فقط في إحسانٍ لمن حولهم وترك أثر وإن كان كأثر فراشةٍ لا يُرى في الأرض التي أنبتتهم، طوبى لكم وسلاماً..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد