الدخان

بدأت الحكاية بدخان غريب تسلل إلى أنفه، فخُيّل إليه أنه نسي شيئاً على موقد الغاز "بالمطبخ"، فأسرع من فوره لتفقد الأمر، فلم يجد شيئاً، ظنّ أن الدخان والرائحة ربما يخصّان أحد الجيران، أو نتيجة حرق لقمامة بالشارع كما يحدث دائماً، دارت كل تلك الافتراضات في رأسه سريعاً، ووجد فيها منطقاً مريحاً يقف خلف هذه الرائحة المتصاعدة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/25 الساعة 02:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/25 الساعة 02:02 بتوقيت غرينتش

بدأت الحكاية بدخان غريب تسلل إلى أنفه، فخُيّل إليه أنه نسي شيئاً على موقد الغاز "بالمطبخ"، فأسرع من فوره لتفقد الأمر، فلم يجد شيئاً، ظنّ أن الدخان والرائحة ربما يخصّان أحد الجيران، أو نتيجة حرق لقمامة بالشارع كما يحدث دائماً، دارت كل تلك الافتراضات في رأسه سريعاً، ووجد فيها منطقاً مريحاً يقف خلف هذه الرائحة المتصاعدة.

عاد لكرسيه الوثير ومكانه المفضل أمام التلفاز، يقلّب المحطات بعدم اكتراث باحثاً عن لا شيء، وسحابة من الملل تخيّم على رأسه، لكن فجأة تشتد الرائحة فتزكم أنفه بقوة، تجبره على الفرار للشرفة لاستنشاق بعض الهواء النظيف أولاً ولاستطلاع الأمر ثانياً.

جاب الشارع بنظره الحاد من كل الزوايا فلم يجد سوى الهدوء وقطتين تتصارعان، وبعض المارة، فصاح بأحدهم، سائلاً إن كان يعرف مكان الدخان وسبب انتشاره بهذا الشكل!

استغرب الرجل كلامه، نافياً وجود أي دخان أو رائحة، وأكدّ أن الجو صحو والهواء عليل.

فعاد للداخل كدراً ولم يستطِع مقاومة الدخان ولا شدة الرائحة الكريهة حتى كاد يفقد وعيه، فهرب للخارج مرة أخرى، منادياً حارس العقار، الذي صعد سريعاً، فوجده يقف بملابس النوم خارج "شقته" فعلت وجهه علامات استفهام كثيرة ودارت برأسه هواجس ومخاوف.

طلب من الحارس الدخول للبحث عن مصدر الدخان ومنبع الرائحة، وتعمّد أن يدفع حارس العقار أمامه، ففعل المسكين صاغراً وهو لا يعي ما يحدث.

توقف الحارس في وسط البهو الكبير المترع بأثاث قديم يدل على عزّ غابر ولوحات بعضها مرسوم باليد وأخرى ضوئية باهتة لتخليد ذكرى كثير من شخصيات العائلة.. تلفّت الحارس حوله، ثم قال أين؟
أين ماذا؟

الدخان والرائحة، فليس هناك أي دليل على وجود دخان، كما لا أشم أي رائحة غريبة مما ذكرت.

– صرخ بأعلى صوته وعيناه أوشكتا على الخروج من محجريها:
– كيف لا تشم الرائحة؟ هل جُننت؟ أم تتعمد إهانتي؟ الدخان موجود أبيض اللون يعمّ المكان والرائحة كريهة وتشتد ثانية بعد أخرى فكيف لا تشعر بها ولا تشمّها؟!

أيها الرجل الطيب: الشقة فارغة إلّا من الأثاث، والهواء عليل يخرج من فتحات أجهزة التكييف التي تهدر متشبثة بحوائط المنزل من الخارج، لا رائحة ولا دخان، وتركه الحارس ومضى.

يُقسم الرواة، أنهم رأوه يهيم على وجهه وقد طالت لحيته كثيراً وساء منظره، سمعوه يهذي عن رائحة كريهة وعن دخان أبيض كثيف من حوله يعمّ المكان!

وما زاد من هياجه وجنونه، إصراره على أن الدخان والرائحة يتتبعانه أينما سار وذهب وإنكار الجميع لذلك. وقالوا أيضاً: إنهم رأوه يصارع آلام داخلية تتبدى على وجهه كمن يختنق أو يُجبر على استنشاق رائحة كريهة مجهولة.. وقد وقفنا حيارى قبالته لا ندري ماذا نفعل، تألمنا لآلامه وأشفقنا عليه فترة ثم سرت بنا الحياة وتجاهلناه، وغاص في دنياه مع الدخان الذي يطارده ليل نهار، وأصبح أسير عالمه الخاص وأضحى في النهاية رقماً أُضيف لعدد كبير يعج بهم الحي من السائرين الغارقين في عوالم مختلفة غرقوا فيها بإرادتهم أو أغرقوا فيها جبراً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد