وقفت أمام المطعم أنتظر أن يمدَّ لي ما طلبته من تلك النافذة الصغيرة التي يقف أمامها أصحاب الطلبات السريعة، ولا وقت لديهم للدخول للمطعم، وانتظار النادل.
فجأة وجدته يقول لي: "هل تقفين وحيدة في الشارع؟ ادخلي للداخل لا تقفي وحيدة في الظلام".
رفعت إليه بصري وكأني أنظر إليه لأول مرة، كان نحيلاً، بخدين غائرين ونظارة طبية، شممت من وراء كلامه ذاك خوف الأب على طفلته، خوف الرجل على امرأته، خوف الذكر على الأنثى، كان كلامه يفوح بالنخوة، الكثير من النخوة التي نحن نساء هذا العصر نفتقدها كثيراً في رجالنا، حتى إن حدثنا أحدهم بكلمات تشعرنا أننا "قوارير" تحركت داخلنا غريزة الميول للذكر الذي يحمي الأنثى.
ماذا حدث لنا؟ تساءلت وأنا أصعد الدرج الطويل، ماذا حدث لنا نحن نساء هذا العصر؟ نساء هذا المجتمع؟ هل فعلاً نعيش هذه الحياة التي اخترنا أن نعيشها؟ أم أننا نعيش حياة أُجبرنا على عيشها؟ هل ظلمونا بحديث كثير عن المساواة والمناصفة؟ أم ظلمنا أنفسنا حين لم نرفع صوتنا عالياً وطالبنا بالعدل، وقلنا: إننا لا نريد مساواة، إننا نريد عدالة، فالظلم لا جِنس له؟ هل ظلمنا الرجل حين أخبرناه أننا مساويات له، ولسنا في حاجة لحماية له؟ هل ظلمنا الرجلَ حين أوغل في تعنيفنا وظلمنا حتى إن قمنا فانتفضنا أجهزنا عليه فأصبح لا يعرف "راسه من رِجليه" ولم يعد يعرف ماذا تريد النساء منه؟ هل فعلاً ما نريده هو المساواة؟ أم أننا نريد رجلاً يتفهم مخاوفنا، ويفهم أن مطالبنا تلك هي بسبب خوفنا منه؟ هل تفهم النساء أنهن مسؤولات عن رؤية الرجل للمرأة وعن تعامله معها؟
أسئلة كثيرة تراقصت في ذهني، ولم أتوصل إلى جواب حتى وأنا أصل إلى الدرج التسعين من ذاك السلم الطويل، لكني في تساؤلاتي تلك تذكرت والدي الذي كان يصفني بـ"راجل ونص"، ومع ذلك لم يجعلني يوماً أحمل شيئاً ثقيلاً، ولا فرض عليَّ يوماً أن أكنس، أو أخبز، أو أطبخ، كنت طفلته المدللة التي لا يسمح لها بفعل شيء سوى الجلوس في غرفتها وقراءة الكتب، تذكرته وهو يقول إنه يرفض أن يزوّج ابنته الوحيدة والصغرى لشخص يهينها، وإن هذا الأمر سيكلفه غالياً.
تذكرت أخي وأنا في سن السادسة عشرة، أتسلل وابنة خالتي من المنزل للذهاب إلى مقهى فتح قريباً بالحي، كانت أول مرة سنجلس في مقهى أنا وهي، ضبطنا أخي وأخوها متسللتين، سألها أخوها عن وجهتها، فقالت له: إنها ستذهب معي، وسألني أخي عن وجهتي فأجبته وأنا أرفع رأسي نحوه، وأقول بصدق رافضة أن أكذب ومستعدة للعقاب: "نحن ذاهبتان إلى المقهى"، فما كان من أخي إلا أن أخرج من جيبه ورقة مائة درهم، وقال لي: "اذهبا وادفعا لأنفسكما لا تتركا أحداً يدفع عنكما".
كان أول درس في الحياة تعلمته من أخي، وما زلت وفيَّة لهذا الدرس، إلى أن اصطدمت بصديقات يخبرنني وهن يستعددن للزواج أنهن لا يتساهلن مع شريك المستقبل في مسألة "المصروف"، وأنه من "قواعد اللعبة"، أن تطلب المرأة من الشريك المزيد من المال حتى يعرف قيمتها فيفكر ملياً قبل أن يعرف عليها أخرى، أو يفكر في الطلاق.
لم أستسِغ يوماً هذه القواعد، لكني وقفت مذهولة منها وأنا أرى الرجال في مجتمعنا أوفياء لها بقدر وفاء هؤلاء الصديقات لها، هن متعلمات ومن طبقات متوسطة إلى ميسورة.
وجدت هؤلاء الرجال يرددون نفس القواعد ويعتبرون المرأة التي لا تجعلهم يتولونها بمصاريفهم امرأة سهلة، لكن أمي لم تكن يوماً كذلك، شهدت أمي وهي ذات جمال بارع، وهي تقتصد في مصروف البيت، وتعين والدي -رحمه الله- على أعباء الحياة، تعينه في صمت وصبر وجَلَد، لم أسمع أمي يوماً تحاسب والدي على مصروف المنزل فقد كانت تضع كل ما لديها في المنزل دون أن تطالبه بشيء، لم تحتج أمي لدروس في المساواة، ولا في الشراكة الأسرية لتعرف واجباتها تجاه عائلتها.
حين توفّي والدي، اضطرت أمي لاستكمال علاج ذراعها في المستشفى وحيدة، كان والدي من يأخذها إليه، كان والدي مَن يتكفل بها وهي خارج البيت، كما كانت هي تتكفل به وهو داخل البيت، لكن أمي عادت ذاك اليوم من المستشفى باكية، لا أزال أذكرها وهي تتشح بالأبيض تذرف دموعاً كثيرة وتشهق من شدة البكاء، قالت لي حين سألتها إنها تبكي والدي؛ لأن رحيله جعلها عرضة لمعاملة سيئة لم تعرفها وهو بجوارها، وهو يسدل عليها حمايته.
تأثرت كثيراً يومها حتى إن إحساساً مزدوجاً تولد داخلي، بين رغبة الأنثى في حماية الذكر، وبين خوف المرأة من رحيل الرجل، وربما كان أخي أكثر عقلانية، فقد جعلني أقوم بما كان والدي يحميني من القيام به، كان أخي يملأ القفة ونحن ذاهبان لزيارة والدتي في المستشفى، ويأمرني أن أحملها لوحدي، حملتها وأنا غاضبة منه، كانت ثقيلة لكني كنت أسكت ألمي بالعناد، كان أخي يقول: "تردن المساواة، ها هي المساواة"، كنت أغتاظ من كلامه، وأغتاظ وهو يتركني أحمل "بوطة كبيرة عامرة" وحدي وأحملها وأصعد بها الدرج إلى حيث منزلنا، أغتاظ وأنا أراه يركب سيارته ويذهب إلى عمله، ويرفض أن ياخذني إلى الجامعة، كان يقول لي: "ركب الطوبيس وحيدي لفشوش"، بين دلال أبي وعقلانية أخي، كنت محتارة، ماذا نريد نحن نساء هذا العصر؟ وهل نعيش حياة اخترناها أم حياة فُرضَت علينا؟
تردد السؤال عليَّ كثيراً وأنا أحمل حقيبتي ذات فجر أجرها في شوارع خاوية أبحث عن سيارة أجرة تقلني إلى حيث محطة القطار أستقله إلى حيث المطار، هناك التقيت بصديقتي وقد جرت بدورها حقيبة سفر، جلسنا في ذاك الفجر نضحك ونحن نتساءل: هل هذه حياة اخترناها نحن نساء هذا العصر أم فُرضت علينا؟
في ذاك اليوم، وصلت إلى فندق باستوكهولم، وضعت حقيبتي، وجلست أتحدث إلى أصدقاء من دول مختلفة، حين سمعت شجاراً، التفتّ، فوجدت أحد الأصدقاء وكان من مصر يحاول إرضاء فتاة، من بذلتها عرفت أنها تعمل "حاملة حقائب" في الفندق، سألت الصديق المصري عن سبب الخلاف، فأخبرني أن الفتاة أرادت أن تحمل عنه حقيبة سفره لتأخذها إلى حيث غرفته، وأنه بدون وعي منه مد يده إلى الحقيبة ورفض أن تحملها عنه؛ لأنه تعلَّم في بلده أن الرجل هو من يتحمل الأثقال بدلاً عن المرأة، وأنها غضبت، وقالت له إنه قلَّل من شأنها، وأساء إليها حين اعتقد أنها غير قادرة على حمل الحقيبة، في حين أنها كانت تقوم بعملها كـ"حاملة حقائب".
تأملت مليّاً صديقي وهو يخبرني عن "شجار الحقيبة" الذي أخفى وراءه تاريخاً طويلاً بين الرجل والمرأة، سألت نفسي يومها في أي مكان كنت أريد أن أكون.. "مكان امرأة يحمل عنها رجل حقيبتها؟ أم مكان امرأة ترفض أن يحمل الرجل عنها حقيبتها؟".
عرفت الجواب، لكني عرفت أن ليس هذا السؤال الوحيد الذي يجب طرحه، فالسؤال الأصح كان: "كيف نجعل رجال هذا العصر يحافظون على النخوة لتعرف نساؤنا السعادة حقاً؟".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.