جلست وهي تتحسس أظافري المطلية بلون ما، ويدها كلها تراب، كانت تنظر لي بحب، وتسألني بشغف عن المدينة والحياة فيها، كانت مستغربة كيف أنني بهذا العمر وأتابع دراستي.
كنت في نظرها كائناً فضائياً، وكانت في نظري روحاً وفكرة وأملاً سيغتصب، كانت تعلم أنها ستغادر المدرسة بعد سنوات، وتتزوج بعدها بسنتين أو ثلاث، وتنجب طفلة تعيش نفس المصير.
قالت بأمل: إن كنت محظوظة يتقدم لخطبتي أحد من المدينة، حينها أسكن هناك وأزورك.
فعندما تكون أكبر همومنا هي امتلاك آخر هاتف من سامسونغ وقضاء عطلة الصيف في مكان لم يسبقني إليه أحد أصدقائنا وارتداء ملابس على الموضة والأكل في ذاك المطعم، وشراء تلك السيارة، حينها فقط يجب علينا أن نفكر فيمن لا يملكون حيزاً للمنام ولا حيزاً للأحلام ولا حتى للحياة! لأنهم لا يؤمنون بالغذ يرونهم شيئاً مخيفاً وهم يهابون الشتاء والثلوج في شهر يناير/كانون الثاني ويهابون الحر والجفاف في شهر أغسطس/آب ولا مفر.
وأنت تفكرين كيف سيطلبك حبيبك للزواج وأين ستقضيان شهر العسل؟ هناك مَن تتزوج شيخاً مسناً بينما عمرها لا يتجاوز الخامسة عشرة وربما شاباً يافعاً يتركها هناك للإنجاب، ومساعدة أمه في أعمال الدار ويعيش شبابه في المدينة ليتذكرها في الأعياد، بينما تلتقطين صوراً مستمعة بالثلوج في إحدى المناطق لتغادريها فور إيجادك للصورة التي تحصد آلاف اللايكات هناك مَن تموت في طريقها لأقرب مستشفى بعد أزمة ربو حادة أو مخاض عسير.
بينما تنزعج من أمك عندما تطلب منك أن تجتهد هناك مَن لا يعرف سبيلاً للمدرسة ويتمنى لو أنه يملك قلماً وممحاة.
ونحن داخل أسرتنا الدافئة نحمل هواتف ذكية نجوب بها العالم، ونحن في أماكننا، هناك مَن يجلس في الظلام وحتى أقرب بئر يبعد عنها بالكيلومترات.
في وطننا الذي نعيش فيه هناك وطن آخر منسي لا يعرفنا ولا نعرفه، لا ينشغلون مثلنا بمعرفة متى سيحصل سعد لمجرد على البراءة ولا مَن سيفوز بالانتخابات في فرنسا، لا يفكرون فيما سيقدمه رئيس الحكومة الجديد؛ لأن حالهم لم يتغير منذ قرون، لا ينزعجون عندما يتعذر الاتصال بالإنترنت ولا يقضون الـ"ويك إند" في مراكز التسوق الضخمة.
هناك وطن نفضل فقط التقاط صور فيه ومع سكانه؛ لنظهر كيف نحن متعاطفون وعميقون، وآخر منسي جداً يفتقر لكل مكونات الحياة.. وطن آخر منسي حد الموت لن تصله هذه الكلمات أبداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.