أثارت حادثة الألمان الأربعة الَّذين اعتدوا، في شهر مايو/أيار 2016، على عراقي مريض نفسياً داخل سوبر ماركت اهتماماً كبيراً عندما وقعت قبل نحو عام، ولكن الغريب حقاً أن تعرف ما آلت إليه القضيّة، والأسوأ أن تعلم مصير العراقي الذي قاده حظه العثر لهذا المكان بحثاً عن علاج نفسي.
الرجال الأربعة ذوو القمصان السوداء شدوا آنذاك وثاق العراقي الذي كان طالبا للجوء وراء ظهره بحبال حديدية، جاؤوا بها من متجر مقابل الشارع، ثم على مرأى نحو 20 شخصاً من العامة ربطوه بشجرة قريبة، ثم أخذوا ينتظرون.
أحد هؤلاء الأربعة نجار في مقتبل العمر، اسمه ديتليف أولسنر، تحدث إلى موقع "ديلي بيست" الأميركي الإخباري قائلاً: "أردنا مجيء الشرطة كي تقرر مصيره".
شباس سيل، طالب اللجوء العراقي ذو الـ21 عاماً، كان في بلدة آرنسدورف طلباً للعلاج في مستشفى الأمراض النفسية المحلي هناك. يومها عرج على السوبرماركت المذكور لتقديم شكوى عن بطاقة اتصال هاتفية كان قد اشتراها من نفس المحل في وقت سابق.
أخذ صوته وصوت البائعة يعلو جدلاً عند نقطة الدفع، وعندئذ بدأ أحد الموجودين الواقفين في الدور بتصوير الأحداث، يظهر العراقي حاملاً زجاجة نبيذ ويبدو على صوته الغضب والانزعاج الشديد، أما البائعة فليست تفهم ما يقول وتطلب منه المغادرة. فجأة يقتحم المحل دون سابق إنذار 4 رجال صارخين بالألمانية raus mit dir (اغرب عن وجهنا)، ثم يمطرون العراقي بسيل من اللكمات قبل سحبه خارجاً.
تقول مارتينا آنغرمان، عمدة بلدة آرنسدورف، متحدثة للديلي بيست "الناس هنا اعتادوا تصرفات مرضى العيادة الغريبة في السوبرماركت" وعادة ما يتجاهلونها.
في نهاية المقطع المصور يتمتم صوت نسائي وراء كاميرا التصوير "كم هو عار أن نحتاج Bürgerwehr (لجان الجيش الشعبي)".
لجان الجيش الشعبي
وقد غدت كلمة Bürgerwehr (لجان الجيش الشعبي) كابوساً مزعجاً وكلمة قذرة تضايق السلطات الألمانية، خاصة في أعقاب تحرشات رأس السنة الجديدة في مدينة كولون العام الماضي، التي أعقبتها موجة عارمة من تأليب كراهية الشعب وانتداب بعض العامة أنفسهم لتصيد المهاجرين في عصابات بلطجة مجيشة لحفظ أمن المدن والبلدات من هؤلاء الدخلاء، حسب الديلي بيست.
وكان وزير العدل الألماني هايكو ماس قد قال العام الماضي محذراً: "ليس من شأن "اللجان الشعبية"، ولا من اختصاص هواة لعبة عسكر وحرامية أن يعينوا أنفسهم للعب دور الشرطة"، موجهاً تحذيره بالذات إلى من يضغطون زر "attend" للمشاركة في حملات "الحراسة الشعبية" المنظمة على الشبكات الاجتماعية، أو أولئك الذين يجاهرون علناً بنيتهم الشروع في إطلاق نوبات حراسة لأحيائهم السكنية ليلاً، في مهمة يرون على ما يبدو أنها لـ"إرجاع النظام من جديد" إلى المدن الداخلية.
معظم تلك الإعلانات انتهت بجعجعة وكلام كثير دون طحن؛ لكن مع ذلك يبدو أن عنف العصابات في أبسط أشكاله قد استلهم فكرة جديدة: فالخريف الماضي أقدمت عصابة من 4 أشخاص على ضرب أحد معارفهم البالغ من العمر 41 عاماً حتى الموت أمام مرقص ديسكو في بلدة فالدبرول الريفية، بعدما شرب أربعتهم حتى الثمالة ذات ليلة، ونزلوا في جولة بالبلدة ممسكين بعصي بيسبول وفي رؤوسهم نية غامضة غير مختمرة تماماً، هي "تصيد اللاجئين". وحينما طُلِب من العصابة تبرير دافع فعلتهم أمام المحكمة، ادعى أحد المتهمين أنه كان يثأر لفتاة كانت قد تعرَّضت للتحرش.
ولَم يقتصر الأمر على ذلك، فقد ألقت السلطات الألمانية القبض على ضابط يبلغ من العمر 28 عاماً في ولاية بافاريا، في أبريل/نيسان 2017، للاشتباه في تخطيطه لهجوم عنصري على اللاجئين، بعد أن كان سجّل نفسه كذباً كلاجئ سوري، واعتُقل أيضاً من يُشتبه في أنه شريكه في المؤامرة، وهو طالب عمره 24 عاماً، بعد العثور على متفجرات بحوزته.
الإعدام الشعبي
وأشار تقرير الديلي بيست، إلى أنه في زمن مضى بالولايات المتحدة كان هناك ما يسمى lynching أو الإعدام الشعبي بالشنق، بدون محاكمة لأسباب عنصرية بحتة قلما تختلف.
أما ألمانيا فليست الدولة الأوروبية الوحيدة التي تعاني من "هواة لعبة العسكر والحرامية"، الذين يبتدعون لأنفسهم وظيفة "متصيدي المهاجرين"؛ ففنلندا هي الأخرى عامرة بعصابات "جنود أودين" الذين يجوبون الطرقات في نوبات حراسة طوعية ضد المهاجرين؛ وليست بلغاريا بأسلم منهما، فقد شهدت حدودها الجنوبية مع تركيا حوادث عديدة تورَّطت فيها عصابات الحراسة في القبض على المهاجرين وضربهم وإذلالهم.
وهذه السنة رفع الادعاء العام البلغاري دعوى باءت بالفشل لمحاكمة بيتر نظاموف (31 عاماً) وإدانته بـ"اعتقال" 3 أفغان مهاجرين، حيث أقدم هو وعصابته التي تطلق على نفسها اسم "الكتائب المدنية لحماية النساء والدين" على محاصرة المسافرين الثلاثة، ثم نهب ما يحملونه، ومن ثمَّ سحلهم والصراخ في وجوههم بلغة إنكليزية "مكسرة" بأن يعودوا أدراجهم إلى تركيا.
البراءة
كان من المفروض أن تكون القضية سهلة سلسة أمام المدعي العام في استخراج حكم بالسجن 6 سنوات على نظاموف، فالحقائق كانت ساطعة لا لبس فيها، حيث إن الجاني نشر مقطع فيديو على فيسبوك يصور الحادثة كاملة، أملاً منه في أن تحظى بإعجاب ساحق من متابعيه، وهو ما تم فعلاً، حيث توالي سيل "اللايكات" العرِم كما كان متوقعاً، فبلغاريا هي دولة عبورٍ يسلكها اللاجئون على طريقهم نحو أوروبا الشمالية، كما أن الحكومة نفسها اتخذت موقفاً متشدداً متصلباً من الهجرة، منتهجة الخطاب واللهجة إياها، التي تميِّز أحزاب اليمين المتطرفة عن سواها.
ثم في مارس/آذار، من هذا العام، قررت محكمة فجأة تبرئة نظاموف. توقعت الشرطة أن نظاموف على الأغلب سيتباهى بفعلته مثلما فعل في مقابلة تلفزيونية أجراها مع قناة bTV المحلية حينما كان رهن الإقامة الجبرية، وخشية من تكراره الاعتراف بفعلته، تقاعست الشرطة عن جمع الأدلة ضده، فلم تحرك ساكناً للعثور على الأفغان الثلاثة الذين فشلت في إحضارهم إلى المحكمة للشهادة، وأما اعترافات نظاموف على شاشة التلفاز فلم يكررها في المحكمة، وهكذا أُخلي سبيله.
يقول كراسيمير كانيف، من لجنة هلسنكي البلغارية لحقوق الإنسان، إن مقاطع الفيديو كمقطع نظاموف قد أسفرت عن تأجيج ما هو أكثر من مجرد إيقاظ كراهية المهاجرين عبر الشبكات الاجتماعية "فهي (أي المقاطع المصورة) تعزز معتقدات منتشرة في بلغاريا بمشروعية هذه الأفعال، وأن هؤلاء الرجال يفعلون الصواب".
مجموعة أخرى شعبية انتدبت نفسها لحراسة الحدود تطلق على نفسها اسم حركة شيكبا Shikpa الوطنية البلغارية، تصنع مقاطع فيديو على يوتيوب على وقع موسيقى صاخبة في الخلفية، يظهر فيها أعضاء المجموعة وهم يمارسون تمارين بدنية ويتدربون على "القبض" على الناس وجمع القمامة.
وفي شهر مارس/آذار 2017، وافقت المجموعة على السماح لقناتي NBC News و Channel 4 الإخباريتين بتتبعها لعدة أيام ورصد أنشطتها اليومية فيما يتبختر أعضاؤها في الغابات ويمشطونها بأزياء متخفية مسلحين ببنادق وخناجر وسكاكين طويلة النصل. تعامل أعضاء المجموعة مع الصحفيين بود وانفتاح، وأخبروهم أنهم يتمتعون بمتابعة 50 ألف شخص على الشبكات الاجتماعية، وأنهم يحظون بدعم حرس الحدود الكامل الذين اتهِموا هم أيضاً بدورهم بالإساءة لطالبي اللجوء بعصيهم وكلاب حراستهم أحياناً، أثناء محاولة العبور إلى داخل بلادهم (وعلى سبيل المثال لقي ضياء الله وفا الأفغاني ذو الـ19 عاماً مصرعه بنيران شرطي رسمي، لا بلطجي متطوع، أثناء محاولة عبور الحدود في أكتوبر/تشرين الأول 2016).
ولكن كانيف يقول في الحقيقة إن منظمته لم يتناهَ إلى سمعها بعد أن حركة شيكبا Shikpa الوطنية البلغارية احتجزت أي مهاجرين، وقال للديلي بيست "أظنهم يتظاهرون بأنهم نشطون. انظر إلى هؤلاء الشبان وسترى أنهم من ذاك النوع الذي يفعل هذه الفعلة ليتباهى أمام الآخرين بها".
ما مصير طالب اللجوء العراقي؟
بعيد حادثة آرنسدورف الربيع الماضي، اتخذت قصة سيل -اللاجئ العراقي- منعطفاً مأساوياً، في شهر يناير/كانون الثاني من هذا العام، حينما اختفى من مأواه، ثم قبل أسبوع من محاكمته التي كان سيشهد فيها وجد صيادٌ جثته في الغابات، وطبقاً لنتائج تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة فإن سيل تجمَّد حتى الموت، ولم تكن هناك أي علامات على إصابات خارجية حسب تقرير الطب الشرعي.
أما ديتليف أولسنر، الذي أشبع سيل ضرباً وشدَّ وثاقه العام الماضي، فمن ضمن هواياته المحببة أيضاً أن يخوض غمار السياسة المحلية بالبلدة، فقبل عامين رشح نفسه لمنصب عمدة آرنسدورف وخسر خسارة كبرى. لا يحب أولسنر لفظة vigilante التي تستخدم لوصف البلاطجة الذين يتربصون بالمهاجرين ليلاً، منتدبين أنفسهم لحراسة الشوارع، فهذه اللفظة كثيراً ما تستخدم لوصفه هو شخصياً في الصحافة، ويصر أولستر حتى الآن على أن فعله ينم عن "الشجاعة المدنية".
وعن مصرع العراقي سيل يقول أولسنر: "بالطبع هو أمر سيئ"، ويقول إنه ورفاقه الثلاثة كانوا جالسين مع محاميهم حينما سمعوا بالخبر "وأصبنا بصدمة"، ثم يصمت هنيهة غريبة ليضيف: "أعني أننا لم نكن نعرفه شخصياً".
ولكن ماذا حدث للمعتدين عليه؟
وفي أبريل/نيسان 2017، وقبل فترة وجيزة من محاكمة عصابة الأربعة على ما فعلوه، وصلت رسالة بريد إلكترونية إلى مكتب الادعاء العام بالولاية، بها تهديد بإطلاق رصاصة في رأس كل من يحضر قاعة المحكمة، وقد ذهل حضور الجلسة من مشهد دخول اثنين من الادعاء العام إلى قاعة المحكمة، مصحوبين عن اليمين والشمال بالحراس الشخصيين. يقول أحدُ سياسيي الحزب الأخضر في ولاية ساكسونيا في وصف المشهد للديلي بيست: "لم أرَ شيئاً كهذا طوال 30 عاماً من مزاولتي للمحاماة".
أما مارتينا آنغرمان، عمدة البلدة، فأصيبت بخيبة أمل عندما ألغى القاضي الجلسة بعد 3 ساعات فقط من انعقادها، متعللاً بعدم كون إجراءاتها القضائية في الصالح العام، حيث إن الجلسة ما كانت لتتمخض سوى عن غرامة صغيرة في أحسن الأحوال. أما خارج قاعة المحكمة فاصطفّ المحتجون المتظاهرون حاملين لافتات صفراء، عليها رسم قطة مصابة بالغثيان كتب أسفلها "أين المحاكمة" و"السهر التطوعي في حراسة الأمن ليس جريمة".
وختمت آنغرمان بالقول: "ولا تزال بلدة آندرسدورف منقسمة بشأن القضية".