حين بدأ الحراك، لم يكن أكثر المُتشائمين بمستقبل سوريا، يظنّ أنّ البلاد مقبلةٌ على هذا الجحيم. أكثر العقول سواداً لم تستطع أن تتنبّأ بحجم الكارثة.
الآن يتذكّر السوريّون ما جرى في هذه السنوات الستّ. بعضهم يتمنّى لو عاد به الزّمن كي يتصرّف بصورةٍ مغايرة. يلتفتون نحو الوراء، يراقبون الخراب، وهم الّذين وجدوا أنفسهم، في محصلة الاقتتال، مُضطرّين للتعامل مع مهرب البشر والضابط المرتشي وموظف المطارات الفاسد.
في هذا التقرير ترصد عربي بوست مغامرات عدد من المسيحيين السوريين الذين قبلوا، أو أُجبروا، على التعامل مع شبكات التهريب، لكي يصلوا إلى بلدان غربية، لاجئين أو مهاجرين، في رحلة مشبعة بمرارة الحرب والغربة.
حمص / 22 يناير / كانون الثاني 2012
في الخامسة فجراً وقعت الجريمة
دخل 5 مسلّحين إلى دكّان غسّان وأفرغوا رصاصهم في صدر أيهم، الشاب الّذي كان يُناوب حتّى ساعات الصباح الأولى لتلبية طلبات "السهيرة"، العابرين منهم والمُياومين.
قُتل أيهم بدمٍ بارد، أحدُ سكّان حيّ الوعر في حمص شاهد سيّارة بيك آب حمراء تُركن على الناصية المقابلة للدكان، ليترجّل منها مقاتلان اثنان، ويكتفي الثلاثة الباقون بمراقبة الشارع، وما هي إلّا دقيقتان حتّى علا صوت الرصاص.
غادر المسلّحون الملتحون غير آسفين على شيء. في الداخل، اختلط دمُ أيهم بالفودكا والويسكي. فجّر المسلّحون الزجاجات كلّها، وخلال نصفِ شهرٍ، أغلقت محلّات بيع المشروبات الروحية جميعها وغادر أصحابها الحيّ إلى غير رجعة.
يتذكّر غسّان تلك المشاهد الموجعة بحزن "كنّا نقسم ساعات العمل إلى ورديتين اثنتين، الصباحية لي، والمسائية ﻷيهم، فالأخير كان يُحاول أن يُنسّق بين دراسته، لتحصيل الشهادة الثانوية، وبين شُغله في الدكّان". يصمت الرّجل الأربعينيّ قليلاً ثمّ يستطرد وقد نال منه البكاء "كنت ألحّ عليه كي يطوي فكرة الدراسة إلى غير رجعة، طلبت منه أن ينسى موضوع الشهادة الثانوية ويُبادلني المناوبات، فأحمل عنه مشقّة السهر ومُخالطة سُكارى الليل، لو أنّه قبل بالمبادلة لكنت الآن مقتولاً بتهمة التشجيع على المعصية والاتجار بالمحرّمات".
دمشق / 5 فبراير/ شباط 2012
حظوظي في الوصول للمكسيك ممتازة
باع غسّان دكّانه وصفّى أشغاله واستبدل بالقطعِ الأجنبيّ كلَّ ما كان في حوزته من سيولةٍ وذهب، ثمّ اتّجه مع زوجته فيرا وولديه غازي/14 عاماً، ولين/10 أعوام، إلى دمشق حيث كان (ن.د) في انتظارهما.
"لي أصدقاءٌ كثر أشادوا به، قالوا إنّه يملك مفاتيح الوصول إلى الولايات المتحدة، والأمثلة التي تدلّ على تمكّنه ومعرفته بآليات السفر ومحطّاته كانت كثيرة" يقول غسّان واصفاً (ن.د) الرّجل الخمسينيّ الّذي يمتهنُ تهريب اللاجئين إلى المكسيك وصولاً إلى أميركا.
حلّ غسّان ضيفاً على (ن.د) في منزله الواقع على ناصية شارع حلب، شرقي دمشق. ينوّه محدّثنا إلى أنّه التقى المُهرّب، تالياً، في بيوتٍ مختلفة، فالرجل مطلوبٌ من الإنتربول، هو دائمُ التنقّل وكثير التخفّي. "قال لي إنّ حظوظيَ في الوصول إلى المكسيك ممتازة، فأنا مسيحيّ ولديّ وثائقُ معمودية تخصّني وكاملَ أفراد أسرتي" يُعلّق غسّان المكالمة ويفتح باب بيته، في سان دييغو، ليتسلّم مغلّفاً فيه دعوةٌ للمثول أمام قاضية التحقيق بعد ستة أشهر. يقرؤها بإنجليزية ركيكة ثمّ يستذكر ما قاله له المُهرّب في نهاية الجلسة الأولى "مسيحيتك رح تنفعك للحدود المكسيكية الأميركية، بس من بعد الحدود رح تتمنى لو أنّك بوذي".
علم غسّان من المُهرّب أنّ كلفة تسفيره، مع أفراد عائلته كلّهم، إلى أميركا ستبلغ، بعدَ الخصمِ والمراعاة استجابةً لوساطات المعارف، قرابة 30 ألف دولار أميركيّ يُدفع نصفها مقدّماً.
خمّن المُهرّب أنّ احتمالات الحصول على فيزا إلى المكسيك، من السفارة في بيروت، شبه معدومة، فاتّجه نحو حلّ بديل، حيث أمّن أربع بطاقات سفرٍ إلى القاهرة، وجعل العائلة تقصد السّفارة هناك، لكنّ طلباتهم قوبلت بالرّفض.
عاد غسّان مع أسرته إلى دمشق، فطلب منهم المُهرّب أنّ يتّجهوا، على سبيل التجريب، إلى السفارة المكسيكية في بيروت، لكنّ طلباتِهم قوبلت بالرّفض كما كان متوقعًا.
يجد السّوريّون صعوبات كبيرة في الحصول على تأشيرات سفرٍ إلى معظم دول العالم. إنّها واحدةٌ من تداعيات الحرب الّتي دخلت عامها السابع، هذه الجزئيّة لم تمنع مهاجري الحرب ومهجّريها من التوافد إلى المكسيك، لكنّ طيفاً قليلاً منهم كان راغباً في الاستقرار هناك.
طبقاً للأمم المُتّحدة، وخلال الفترة الممتدة بين 2011 ونهاية 2015، لم يتقدّم إلّا 26 سوريّاً، فقط، بطلبات لجوءٍ رسمية في المكسيك، الأمر الّذي يؤكّد أنّ السّواد الأعظم من هؤلاء استعمل، ولا زال يستعمل، الأراضي المكسيكية جسرَ عبورٍ للوصول إلى الولايات المتحدة الأميركية.
قضى غسّان وأسرته قرابة أسبوعين في انتظار أن يجد (ن.د) منفذاً بديلا. عشية عيد الأمّ التقاه المهرّب وأعطاه أربع بطاقاتِ سفرٍ مؤشّرةٍ إلى نيجيريا، وأخبره أنّه حال وصول الطائرة، التي ستقلع من بيروت بعد يومين اثنين، إلى مطار أبوجا، سيكون هناك رجلٌ لبنانيّ في انتظارهم.
"مأساة بائع الدبس الفقير" – طبعة 2011
لم يتمكّن سعيد، صاحب أحد أنشط متاجر الحلويّات ضمن محافظة حماه، من إقناع (ن.د) بأن يمنحه "حسماً" يجعل تكلفة تهريبه إلى المكسيك معقولةً بدرجةٍ ما "أنا معتقلٌ سابق، وممنوعٌ من السفر بموجب مذكّرة رسمية، الأمر الّذي صعّب المهمّة على المُهرّب وجعله يستعين بوسطاء إضافيين لتأمينِ عبورٍ آمنٍ لي نحو لبنان، حيث اضطررتُ للاعتماد على سماسرةٍ جدد لتسوية وضعي في بيروت، فتمّ الاتفاق على 20 ألف دولار يُدفع نصفها مُقدّماً" يقول سعيد الّذي صار مستقرّاً في المكسيك ولديه ولدٌ يُدعى "سام"، ثمّ يستطرد "اعتُقلت من قبل الأمن السياسيّ السوريّ بموجبِ تقريرٍ كيديّ، ثمّ أُطلق سراحي، لكنّني لم أنجح، على الرغم من كثافة المحاولات، في طيّ منع السّفر، وصارت معاناتي على الحواجز شبه يومية، فقرّرت أن أخوض غمار السّفر إلى الولايات المتحدة حيث يقيمُ ثلاثةٌ من أقربائي ضمن ولاية كنتاكي".
في تحفته الّتي نُشرت عام 1981، يتحدّث سعد الله ونّوس عن رجلٌ يشتغل ببيع الدّبس، ويعاني من الوشايات والدسائس الّتي تجعله خصماً لرجالاتٍ نافذين في الدولة. حكاية سعيد تبدو أقرب إلى إصدار 2011 من مسرحيّة "مأساة بائع الدّبس الفقير".
أبوجا / 10 مارس / آذار 2012
كلّ شيء سار كما هو مخطّط له بالنّسبة لغسّان وعائلته. قادهم الرجل اللبنانيّ، المدعوّ "أبو ميشا" إلى فندقٍ متوسّط الفخامة، وأوصاهم بأن يقولوا، إذا ما سُئلوا عن داعي زيارتهم، إنّهم هنا بقصد السياحة الدينية.
"خلال ثمانية عشر ساعة استطاع أبو ميشا أن يؤّمن لنا موعداً في السفارة المكسيكية، وحين ذهبنا إلى هناك فوجئنا بأنّ كلّ شيء كان معدّاً وجاهزاً" يقول غسّان، ويضيف "مكثنا في نيجيريا قرابة عشرة أيّام، ثمّ حصلنا على تأشيرة بموجب عقد عملٍ وهميّ مع شركة مكسيكية انتدبتني بصفتي خبير معلوماتية، وكان حصول زوجتي وطفليّ على الموافقات تحصيل حاصل".
عاد غسّان مع عائلته إلى بيروت، وحضّر ما يلزمه من ثبوتيات وأمتعة استعداداً للهجرة.
رأس السنة السورية
صرخ الضابط في وجهنا: أنتم مزوّرون!
مؤخّرا، أعاد السوريّون إحياء أعياد الـ"آكيتو" وصاروا يحتفلون في 1 نيسان من كلّ عام، برأس السنة السورية. "غادرنا بيروت، وهي جزءٌ أصيلٌ من سوريا الكبرى، صباح رأس السنة السورية رقم 6762. هجرناها مرّة واحدة وإلى الأبد" تقول فيرا.
خلال خمسة أيّامٍ وخمسِ ليالٍ، انتقلت العائلة من آسيا إلى الأميركيتين عبر خمس محطّات هي: بيروت، دبيّ، البرازيل، بنما، المكسيك.
"كلّ شيء كان يسير بشكلٍ جيّد، حتّى وصلنا إلى البرازيل" يقول غسّان، ثمّ يستعين بزوجته كي تُذكّره بصنوف القسوة التي عُوملوا بها في المطار.
"جوازات سفرنا مرّت على عناصر أمن المطار كلّهم، أحدهم صرخ في وجهنا واتّهمنا بأنّنا مزوّرون" تقول فيرا وتستطرد "كان (ن.د) قد نبّهنا إلى أنّ هذا السلوك الاستفزازي ليس أكثر أو أقلّ من أسلوبِ مكاشفةٍ يستعمله ضبّاط أمن المطار، وعليه فقد كنّا جاهزين نفسياً، وبادلنا الصراخ بمثله، وقلنا له إنّ تأشيراتنا نظامية ومختومةٌ من السفارة المكسيكية وإنّنا سنُقدّم شكوى في حقّه إذا استمرّ في الصّراخ أمام طفلينا".
بعد أن قاموا بتمرير جوازات السفر على أجهزة الكشف والتدقيق عدّة مرّات، سمح لهم عناصر الأمن بالعبور نحو الطائرة التي حطّت في بنما. هناك كان الوضع أكثر سوءاً.
اقتيدت الأسرة نحو غرفةٍ مغلقة، واستجابةً لتعليمات (ن.د) لم يهمس غسان وزوجته بكلمةٍ واحدة خشية وجودِ كاميرات تُسجّل المحادثة فتحوِّلها لدليلٍ يُرجع اللاجئين إلى بلادهم بعد أيّامٍ مديدةٍ من الشقاء في المطارات وغرف التحقيق.
أُخلي سبيل العائلة السورية، التي عبرت، أخيراً، إلى مطار مكسيكو سيتي.
هنا، يُشدّد غسان على خصوصية اللحظة "كان (ن.د) قد جعلني أكرّر عبارة "إيّاك أن تتوه عن (البوابة رقم 2) في مطار مكسيكو سيتي" أكثر من مئة مرة، وأقسم لي أنّ ثلاث عائلات جرت إعادتهم إلى سورية ﻷنهم أخطئوا البوابة".
بائع الدّبس على معبر الجحيم
لم يكن السوريّ "منبوذاً" في السفارات عام 2011، حيث كان سعيد محظوظاً قياساً بغسّان وعائلته، فمحاولته في مصر نجحت، وحصل على تأشيرةٍ إلى المكسيك. ومن مطار القاهرة، وصولاً إلى مطار مكسيكو سيتي، وباستثناء بيروت ودبيّ، مرّ سعيد بالمحطّات السابقة إيّاها.
"وصلتُ إلى البوّابة رقم (2)، أو "معبر الجحيم" كما يسمّيه (ن.د)، ولاحظت أنّ بلبلةً قد حدثت مع مسافرٍ كان يتقدّم الطابور الّذي وقفت فيه، فانسحبت، دونَ أن أثير جلبةً، وتظاهرت بأنّني أجري اتصالاً إلى أن لاحظتُ أنّ العنصرَ المناوب، بصورةٍ مؤقّتة، قد استُبدل، وحلّ مكانه عنصرٌ آخر. الأخير تنبّه لارتباكي، فأشار لي خفيةً وعدت إلى الصفّ، وتمّ كلّ شيء على ما يُرام".
(ن.د) يُدير العالم عبر الهاتف
في معرض حديثه عن (ن.د) يؤكّد غسّان أنّه رجلٌ نافذٌ ومحترفٌ بالمعنى الواسع والعريض للمفردة، فعلاقاته متشعّبة وواسعةٌ بصورةٍ تبعث على الدهشة. أحدُ كبار الموظّفين في السفارة (نيجيريا) كان شريكاً له، والقسّ الّذي صادق على دخولنا إلى أبوجا بغرض السياحة الدينية كان يشتغل لصالحه، حتّى أنّ رجل الأمن المكسيكي الواقف على (البوابة رقم 2) كان متّفقاً معه لتمرير غسّان وأسرته دونَ مساءلاتٍ زائدة. كان غسّان يشتري شريحة هاتفية حين يصل إلى كلّ مطار، ويهاتف (ن.د) ويطلعه على التفاصيل والعقبات كلها. الأخير كان يجري اتصالاتٍ سريعة فـ"تُفتح أبواب الجنّة". "أمثال (ن.د) يُديرون العالم عبر الهاتف" يقول غسان.
"برينس" الشريط الحدودي
خارج مطار مكسيكو سيتي، وجدت العائلة سائق سيّارة أجرة يحمل لافتةً كُتب عليها اسم غسّان وفيرا. هو أيضاً واحدٌ من رجالات (ن.د).
أوصلهم السائق إلى كراجٍ واسعٍ تقف فيه باصاتٌ حديثةٌ ومجهّزةٌ بصورةٍ ممتازة. هناك، كان "البرينس" في انتظارهم.
"البرينس" حسب ما وصفه غسّان، هو رجلٌ أشيبٌ حليق الذقن، يرتدي خواتم في أصابعه كلّها، يتحدّث المكسيكية بطلاقة، لكنّه في لحظة انفعالٍ وبّخ واحداً من مساعديه، فتبيّن أنّه لبنانيّ.
قاد "البرينس" غسّان وأسرته إلى Mexico City Hotel، وجالسَهم مدّة ساعتين شارحاً لهم بالتفصيل المملّ ما يتوجّب عليهم القيام به "ستتركون معظم أمتعتكم في الفندق، وستغيّرون ملابسكم وتستعيضون عنها بما يجعل أمن المطار في غوادالاخارا يعتقد أنّكم سائحون، وحين تدخلون الحرم تصرّفوا بثقة وحرّضوا أولادكم على الضحك وليكن سلوككم عادياً قدر المستطاع" والوصيّة الأهمّ "إيّاكم أن تتحدّثوا بالعربية".
نسأل غسّان عن جدوى طمس اللغة بالنّسبة للاجئين يحملون جواز السفر السوريّ فيجيب "من الجيّد أنّ الفساد لا وطن له، فالموظّفون الّذين اتجهنا نحوهم في مطار غوادالاخارا غرب المكسيك كانوا متّفقين مع البرينس، ومرّروا جوازاتنا دونَ تحقيقاتٍ مبالغٍ فيها، وحين أصبحنا في الطائرة علمنا أنّ كلّ شيء قد تمّ".
آخر رجالات البرينس كان سائق ميكرو/ فان، انتظر الأسرة في المطار التالي، مطار أبراهام غونداليز الدولي في سويداد خواريز أقصى شمال البلاد.
لم تستغرق الرحلة أكثر من عشر دقائق، توقّفت بعدها السيارة وطلب السائق من غسّان وأسرته أن يترجّلوا ويسيروا قرابة خمسمائة مترٍ نحو اليمين حيث يقع خطّ الفصل بين المكسيك وأميركا، وليسلّموا أنفسهم هناك إلى شرطة الحدود.
حياة جديدة في المكسيك
لم يجد سعيد أحداً في انتظاره على بوّابة مطار مكسيكو سيتي "انتظرت طويلاً، ولم أشاهد رجلاً يحمل لافتةً عليها اسمي. تداعت إلى بالي خواطر عدّة. في البداية اعتقدتُ أنّ (ن.د) قد أخلّ بالاتّفاق، ثمّ بدأت أُقنع نفسي بأنّ خللاً ما قد حدث على مستوى المواعدة والتوقيت، ولم أشأ أن ألفت نظر حاشية المطار إليّ، فسرتُ على غير هدىً".
تنبّه سعيد إلى رجلٍ كان قد شاهده قبلاً في مطاري القاهرة والبرازيل "قابلته مجدداً على طاولةٍ في أحدِ المقاهي القريبة من المطار، جالستُه وتحدّثتُ إليه بحذر، كلانا كان يستخدمُ إنجليزية ركيكة، الأمر الّذي شجّعنا على مزيدٍ من المكاشفة، أخبرته أنّني سوريّ، وعلمتُ أنّه مصريّ من الإسماعيلية".
تحوّل "عمرو" من صُدفةً مصرية، إلى صديقِ درب. ابنا عمّه اللذان استقرّا، منذ عامين، في مكسيكو سيتي كانا دليليهِ نحوَ حلٍّ بديلٍ طوى حلم الحياة في بلاد العمّ سام إلى غير رجعة.
شعر سعيد بخوفٍ زائدٍ من أقاصيص قاطعي الطرق، والشرطة الحدودية الأميركية التي تستخدم كلّ الطرق المتاحة، بدءاً من الكلاب البوليسية وصولاً إلى الحوّامات الكاشفة، لأجل اصطياد المهاجرين غير الشرعيين ومُهرّبي المخدّرات والأسلحة على حدّ سواء.
بين ليلةٍ وضُحاها، تبدّلت مشاريع بائع الحلويات السوريّ، وقرّر أن ينضمّ إلى عمرو وقريبَيه.
لا يمكن القول إن القوانين المكسيكية تعادي المهاجرين أو اللاجئين، فعلى الرغم من وجود أكثر من 4000 طالب لجوء في المكسيك من جنسيات مختلفة، ووجود أكثر من 400 ألف مكسيكي يتحدثون العربية، وهم السكان من أصول لبنانية وفلسطينية وسورية، إلا أن السوريين المهاجرين في الأزمة الحالية لا يبذلون جهودًا كبيرة من أجل الاستقرار في المكسيك، فالوصول إلى الولايات المتحدة لا يزال الهدف الأول بالنسبة لهم، والإحصاءات تبشرهم بالفعل، ففي الفترة الممتدة ما بين ١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١١ و٣١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٦ قامت الولايات المتحدة الأميركية بإعادة توطين 18007 لاجئ سوري في أميركا بحسب معهد سياسات الهجرة. لذلك كان قرار سعيد قرارًا أكثر جرأة رغم أن دافعه الأول كان الخوف من مشقة الرحلة إلى أرض الأحلام.
زنزانة بشباك واحد لا يدخل منه الهواء
سلّم أفراد العائلة جوازات سفرهم لشرطة الحدود، وطلبوا لجوءاً "دينياً إنسانيّاً" إلى الولايات المتحدة.
يحاول غسّان، جاهداً، أن يوصّف المكان "فوق مرتفعٍ أجرد، كان هناك شريطٌ حدوديّ يمتدّ حتى انتهاء أفق النظر، ودوريّات الحراسة تطوف في محيط المكان مثل خليّة نحل".
اقتيد الرّجل مع عائلته إلى بناءٍ ضخم. في الداخل، جرى نقلهم نحو بهوٍ واسعٍ للغاية، وأجبر ربّ الأسرة على الجلوس بعيداً عن زوجته وطفليه.
جلس الأربعة، رفقة ما يزيد عن مئة فردٍ، على كراسٍ تمتد بمحاذاة جدران البهو، ثمّ تقدّم منهم رجالات أمنٍ وأخذوا الحقائب وأحزمة الوسط وأشرطة الأحذية وسلاسل العنق وكلّ ما قد يُستخدم لغرض الانتحار.
تالياً، فُصل غسّان عن بقية أفراد العائلة، حيث نُقلت زوجته، مع طفليه، إلى غرفةٍ تُستعمل كسجن، وتشاركوا هواءها الرطب مع عشرين شخصاً آخر.
في الغرفة شبّاك واحدٌ مزوّدٌ بشبكٍ معدنيّ يجعل الهواء النقيّ النافذ نحو الداخل قليلاً جداً، وكان الولدان ينامان فوق وسائد مفرودةٍ على الأرض، أمّا المرحاض فهو، برائحته وسمومه ورمزيّته، جزءٌ من السّجن الّذي حُشر فيه سوريّون كثر.
خلال فترة التوقيف، أُخرج الجميع، مرّة واحدة، نحو غرفةٍ أوسع، كانت فيها شاشةٌ تعرض مادة فيلمية مترجمةً إلى العربية، تُظهر شخصاً يحدّث الموقوفين وينبّههم إلى ضرورة عدم الكذب وتزييف الحقائق في التحقيقات، مُشدّداً على أنّ المُحقّقين قد خبروا كلّ أساليب التحايل والتعاطف الّتي يتّبعها اللاجئون، وأنّه ما من سبيلٍ للخلاصِ إلّا في قولِ الحقيقة.
تُضطر فيرا إلى تعليق المكالمة مرّتين اثنتين، فكلّما تذكّرت معاناتها، مع طفليها، في سجن الحدود، عاودت البكاء.
"أقسم أنّني لست أذكر كم مكثنا في الغرفة، لم تكن هناك وسيلةٌ لحساب الوقت، فلا النافذة تُمرّر الشمس ولا الحُرّاس يجيبون عن أسئلتنا" تُفكّر مليّاً ثمّ تستطرد "أعتقد أنّنا سُجنّا قرابة خمسة أيّام، أكوّن هذا التخمين استناداً إلى عدد وجبات الطعام التي قُدّمت لنا، كانوا عشر وجبات، وإذا افترضنا معدّل وجبتين يوميّاً، تكون المحصّلة خمسة أيّام".
تالياً، تقدّم حارسٌ ونادى على "فيرا" بالاسم. "رفضت أن أخرج وحيدةً، تشبّثت بولديّ مثل القابض على روحه، وحين صارا يبكيان وافق الحرّاس على السماح لي باصطحابهما إلى غرفة التحقيق".
غرفة التحقيق على الحدود الأمريكية
في غرفة التحقيق علمٌ كبيرٌ للولايات المتحدة، وضابطٌ من أصولٍ شرقِ آسيوية يحمل شارة المباحث الفيدرالية. كان الأخير جالساً خلف مكتبٍ عليه هواتف كثيرة. على كرسيّ مجاور جلس مترجمٍ يُسهّل التواصل بين المُحقّق واللاجئة السورية.
قبل الخوض في الأسئلة، أكّد المُحقق لـفيرا أنّ الكذب سيعيدها، مع أولادها وزوجها، إلى دمشق، وطلب منها أن تُصارحه بالحقائق كلّها.
"بعد أسئلة روتينية، طلب منّي المُحقّق أن أذكر له علامةً مميّزة في جسد زوجي، ثمّ سألني عن هوية المُهرّب الّذي تعاملنا معه، وحين رفضت أن أُفصح عن الاسم أظهر لي صورةً لـ(ن.د)، فاعترفت بأنّه من خطّط وساعد في كلّ شيء".
سمح المُحقّق لفيرا بإجراء اتّصالٍ مع واحدٍ من أقربائها في سان دييغو. ما إن أتاها صوت القريب عبر الهاتف حتّى انفجرت فيرا بالبكاء وطلبت منه أن يشرح للمحقّق مدى سوءِ الحال الّذي وصلت إليه مع طفليها.
"نسيبي محامٍ، ومحادثته مع المُحقّق كانت فاصلاً بين شكلين سلوكيين متباينَين، فما إن انتهت المكالمة حتّى صار صوتُ الضابط أكثر ودّاً، وأكّد لي أن زوجي بخير لكنّه سيبقى محتجزاً لفترةٍ زائدة، فالرّجال غير محظوظين حين يتعلّق الأمر باللجوء إلى الولايات المتحدة".
نسأل فيرا عن حقيقة "الدلال" الّذي يُعامل به اللاجئ المسيحيّ، فتجيب بمزاجٍ من السخرية "ليس هناك أسوأ من أن تكون مسيحيّاً على الشريط الحدودي الأميركيّ، لستُ أفهمُ أسباب هذا التضييق، لكنّه كان محسوساً تماماً بالنّسبة لي".
سخرية فيرا مبررة تمامًا، إذ تقول دراسة نشرها معهد سياسات الهجرة الأمريكي بداية عام 2017 إن "نسبة 98% من اللاجئين السوريين الّذين أعيد توطينهم في الولايات المتحدة مسلمون، أمّا المسيحيون فلا تتجاوز نسبتهم 1%".
وتُضيف الدراسة "ليست هناك تفسيراتٌ منهجيّة لهذا التباين في النِّسب، ربّما يعود الأمر إلى فكرةٍ تُفيد بأنّ المسيحيين يلقون دعماً من الرئيس بشار الأسد، الأمر الّذي يجعلهم محميين في وطنهم".
لجانٌ شعبية في مكسيكو سيتي
"اللجان الشعبية" تسميةٌ يُطلقها السوريّون على جزءٍ من القوى الأهلية التي تقاتل إلى جانب الجيش السوريّ، حيث توظّف هذه اللجان، غالباً، لمهامَ قتاليةٍ ودفاعيةٍ على مستوى الأحياء والأزقّة.
شكّل عمرو قناة وصلٍ بين أقاربه وبين سعيد الّذي بدأ يشتغل في أحد المطاعم الواقعة على أطراف مكسيكو سيتي.
"عملت في صناعة الحلويات ضمن مطعمٍ يُشرف عليه أحد أقرباء عمرو، وتحوّلت العلاقة، خلال فترةٍ قياسية، إلى شكلٍ أكثر وديّة" يقول سعيد، ويستطرد "صاحب المطعم لديه علاقاتٌ نافذةٌ مع ما يُمكن أن أسمّيه (لجاناً شعبية مكسيكية)، وتتلخّص وظيفة هؤلاء في التعامل مع الدوريّات الشُرطيّة والأمنية الّتي تبحث في ملفّات المُهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين على حدّ سواء".
كان سعيد يُنفق على يوميّاته من المُدّخرات التي جمعها في سورية، فراتبه كان يدفع كاملاً "أتاوةً" للمافيات الّتي تُغطّي على عمله في المطعم، فالتأشيرة على جواز سفره مُخصّصة للسّياحة فقط، وهي لا تخوّل صاحبها ممارسةَ أيّ عملٍ على الأراضي المكسيكية.
18 خطوة قبل الوصول إلى الضوء
خرجت فيرا مع ولديها، رفقة حارسٍ ومحامٍ إلى فندقٍ قريب. في الغرفة أريكتان وسريران وبرّاد فيه طعامٌ معدٌّ مسبقاً.
"كانت الغرفة مقسومةً إلى نصفين اثنين بوساطة ما يشبه الستار الخشبيّ، ولشدّة التعب، نمت مع ولديّ من الصباح حتّى منتصف الليل، وحين أفقنا وجدنا معنا، في النصف الكائن خلف الستار، موظّفاً وموظّفة، هما في الواقع مراقبان مكلّفان بمنعنا من مغادرة المكان، لكّنهما قاما على خدمتنا، فقدّما الطعام لابني وابنتي، وأفسحا لي المجال كي أستحمّ".
تتابع فيرا بارتياحٍ واضح "قادونا، صباح اليوم التالي، إلى حبسٍ في سان دييغو، والتقطوا لنا صوراً ومنحونا أوراقًا ثبوتية مصورة ثمّ سرنا في ممرّ طويل، وكنّا وحيدين، طفلاي وأنا، لم يرافقنا أحد، لا حرّاسٌ ولا محامون ولا شرطة، سرت ثمانية عشرة خطوة، قمت بعدّها شهيقاً شهيقاً، وفي نهاية الممر، خرجنا إلى الضوء".
جلست فيرا مع ولديها على ناصيةٍ في سان دييغو، وراحت تراقب الأبنية الشاهقة والمرتفعات الطابقية، ومكثوا حتّى وصل قريب السّيدة وقادها إلى منزل الواقع على مسافة 100 كيلو مترٍ جنوبَ الحبس.
لاحقاً، عيّنت الزوجة محامياً متخصّصاً بشؤون اللاجئين اشتغل على تخليص زوجها من السّجون المتتالية التي وُضع فيها.
تنقّل غسّان بين ثلاثة سجون، وقضى فيها مدّة 70 يوماً، ثمّ خرج بكفالة كلّفته قرابة 7500$، وإذا ما أُضيفت هذه الكلفة إلى عمومِ ما أنفقته العائلة حتّى وصلت إلى بلاد العمّ سام، يكون الحاصل 65000$ (وهو ما يعادل ضعف ما طلبه المُهرّب بداية، مدّعياً أنّه يغطّي تكاليف السفر كلها).
"نتحرك بموجب رخصة قيادة السيارة"
ينشط غسّان وفيرا في سان دييغو، الزوج بدأ يعمل في متجرٍ لواحدٍ من أقربائه، أمّا الزوجة فتشغل نفسها بتعلّم اللغة الإنجليزية ومتابعة شؤون ولديها في مدرستهما الجديدة.
إضافةً إلى الأوراق الثبوتية الّتي حصلوا عليها في الحبس الأخير، يتحرّك اللاجئان السوريان اعتماداً على شهادة قيادة سيّارات، يستعملانها كوسيلةٍ ثبوتية لتحديد الشخصية، وذلك في انتظار موعد محاكمة روتينية لتسوية وضع العائلة في تشرين الأول.
سمانثا، صفقة الزواج، ثمّ الحبيبة والأمّ
يُعتبر التجنيس عن طريق الزواج شكلاً من أشكال الاستثمار في بلادٍ عدّة، والمكسيك ليست استثناءً.
أقرباء عمرو عرضوا على سعيد "صفقة زواج" من "سمانثا" عاملة التنظيف في أحد فنادق المدينة.
"جرى الاتّفاق على أن أدفع لسمانثا مبلغ 200 دولارٍ شهرياً، مقابل الحصول على جواز السفر المكسيكي بموجب القانون الّذي يُخفّض المدّة من خمس سنواتٍ إلى سنتين اثنتين شرط أن يكون المُتقدّم بطلب التجنيس متزوّجاً من مكسيكية".
استناداً إلى التصنيف الدّوليّ لفعالية جواز السّفر، تحتلّ المكسيك المرتبة 26 عالمياً، والحصول على الجنسيّة، في الأحوال العادية، يستوجب تجاوز امتحانٍ يُسأل فيه المُتقدّم عن إلمامه بتاريخ البلاد ولغتها وقوانينها ونظامها الداخليّ.
"حتّى يكونَ طلبُ التجنيس مُستحقّاً، ينبغي على المُتقدّم أن يرفق به بيان حركةٍ يُثبت من خلاله أنّه عاش فوق الأراضي المكسيكية مدّة خمس سنواتٍ كاملة، ويُصار إلى تخفيض المدّة لسنتين اثنتين في حالِ أثبت أنّه كان يُمارس عملاً استثمارياً في البلاد.
تمكّن سعيد من تسوية أوضاعه عن طريق الاستعانة بأحد المحامين المُتخصّصين بقضايا المهاجرين والمهجّرين، وحصل الأخير على تسهيلٍ مجانيّ لمهمّته بعد انضمام المكسيك إلى باقة 17 دولةً وافقت على فتح أبوابها أمام اللاجئين السوريين الراغبين في الهجرة
بعدَ انقضاءِ سنةٍ ونصف من التعامل اليوميّ، تطورّت علاقة سعيد مع سمانثا، حيث شعر الاثنان بأنّ مساحةً المودّة والقبول لديهما تجاوزت حدود الاتّفاق الاستثماريّ، فتوقّف سعيد عن دفع "أجرة الزواج"، وحصل نهاية عام 2014 على الجنسية المكسيكية.
جدار ترامب ومرسوم يناير قد يجمّدان هجرة السوريين إلى غير رجعة
في 27 يناير 2017، وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرسوماً يهدف إلى "فرض إجراءات جديدة من أجل منع دخول الإسلاميين المتطرّفين إلى الولايات المتحدة".
في التعليمات التنفيذية، علّق ترامب دخول اللاجئين إلى الولايات المتحدة مدة 120 يوماً، وحدّد أولويات استقبال طلبات اللجوء في المستقبل على أساس الاضطهاد الديني إذا كان الشخص منتمياً لأقلية دينية في وطنه، الأمر الّذي سيقلب آية 2016، ويعزّز فرص دخول المسيحيين السوريين إلى أميركا خاصّةً وأنّ الرئيس الجمهوريّ، ومن خلال لقاءٍ تلفزيونيّ بثّته شبكة NBC خلال حملته الانتخابية، اعتبر أنّ "الأولوية في طلبات اللجوء التي سيقدمها السوريّون ستكون للمسيحيين منهم، فالمتطرّفون يقطعون رؤوس الجميع وخاصة المسيحيين".
في همرجة التحوّلات التي تلت وصول الرجل الأشقر إلى المكتب البيضاوي، يبدو أنّ جدار الفصل الحدودي المُزمِع إنشاؤه بين أميركا والمكسيك سيُشكّل مسماراً أخيراً في نعشِ الحركة غير الشرعية بين البلدين الّذين يتجاوران على مسافةٍ تصل إلى 3145 كيلو متراً (وتعتبر المسافة الحدودية الأطول في العالم).
لم يعد هناك حاجة للهجرة بعد الآن
بفضل جواز سفره المكسيكي، لم يعد سعيد مضطراً للهجرة إلى الولايات المتّحدة بحثاً عن المستقبل، فهو اليوم يُقيم في العاصمة الفيدرالية للمكسيك، وقد تخلّص من جميع القيود التي حالت، قبلاً، دون حصوله على حقوقه في المواطنة الكاملة، وقد أصبح لديه طفلٌ مكسيكيّ المولد، وصار باستطاعة العائلة أن تزور أكثر من 139 بلداً حول العالم دون تأشيراتٍ مُسبقة. في المحصلة، لم يعد دخول الولايات المتحدة الأميركية يقتضي مصافحة الموت في نهريّ كولورادو وريو غراندي، أو مؤانسة الكلاب في الصحارى، أو دفع الأتاوات لقطّاع الطرق في متّسعات ما بين البلدين.