رسالة إلى السجَّان

تستطيع يا سجاني حجز جسدي في زنزانتك المنتنة، وتستطيع تقييد يدي وتكميم فمي فتمنعني من الحركة والكلام، وتستطيع أيضاً حجب ضوء الشمس عني، فيتساوى في ناظرَي الليل والنهار، تستطيع أن تفعل كل ذلك وربما أكثر، خاصة وأنت صاحب التاريخ الطويل في الاضطهاد والتعذيب والقتل والتشريد، وأنت الأسبق إلى الظلم دائماً وامتهان كرامة الإنسان.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/08 الساعة 02:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/08 الساعة 02:11 بتوقيت غرينتش

أكتب إليكَ يا سجاني، بعد أن استنفدت كل الوسائل المنطقية الأخرى البعيدة كل البعد عن منطق الحرب والسلاح الذي يؤسفني أنك لا تفقه سواه؛ لإقناعك بأنك لن تهزمنا، عساك تتراجع عما تقوم به؛ لأنه لن يعود عليك بالفائدة.

أنا أعلم أنك تعرف هذه الحقيقة، وأنك تُحدّث بها نفسك، ولكنك ترفض البوح بها لغير نفسك.

يا أيها السجان.. أنا لست لقيطاً مثلك، ولست ابن اللحظة، أصولي متجذرة في التاريخ الغابر، منذ وطئت أقدام الجد كنعان هذه الأرض، وفي ثراها غرس البذور؛ عمر بن الخطاب عندما فتح القدس، فنمت على تراب حطين زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، وما زلنا من زيت هذه الزيتونة نقتات ونتنفس ونحلم وننمو، ولأجلها ولأجل الأرض التي نمت عليها نحيا ونموت!

فماذا تريد منا يا سجان.. أن ننسى؟ أن نتخاذل؟ أن نخون؟ والله هذا بعيد المنال، فهو ليس مِن شِيَمنا، وهذه المصطلحات ليست في قاموسنا، ولم تعلمنا أمهاتنا إياها منذ فتحنا أعيننا في هذه الدنيا، وليس في خبرتنا أو تجاربنا السابقة شيء من هذا القبيل.

تستطيع يا سجاني حجز جسدي في زنزانتك المنتنة، وتستطيع تقييد يدي وتكميم فمي فتمنعني من الحركة والكلام، وتستطيع أيضاً حجب ضوء الشمس عني، فيتساوى في ناظرَي الليل والنهار، تستطيع أن تفعل كل ذلك وربما أكثر، خاصة وأنت صاحب التاريخ الطويل في الاضطهاد والتعذيب والقتل والتشريد، وأنت الأسبق إلى الظلم دائماً وامتهان كرامة الإنسان.

ولكن يا سجاني.. اعلم أنك لا تستطيع حجز إرادتي في سجونك، ولا تستطيع تقييد فكري وتكميم روحي، لا ولن تستطيع حجب إيماني بربي ويقيني بعدالة قضيتي، لن تستطيع قتل الأمل المشرق داخلي، الذي يمدني دائماً بالعزيمة والإصرار، لن تستطيع هزيمة روحي وإرادتي، حتى وإن حبستني وعذبتني، فلن تهزمني.

سأبقى أتطلع لشمس يوم ستشرق على خارج سجنك، بين أهلي، وسأنتظر اليوم الذي ستركع فيه لإرادتنا نحن، وهو لا شك قريب؛ لأننا أصحاب الأرض وأصحاب القضية، وسأدخل القدس يا محتلّي حينها فاتحاً وليس مجرد مصلّ مذلول تضطهدني على حواجزك العسكرية قبل أن تأذن لي بالدخول، سأدخل القدس منتصراً مكبراً على جوادي، حاملاً راية "الله أكبر" خفاقةً في الأفق.

صحيحٌ يا محتل أن الجولة اليوم هي جولتك، والوقت هو وقتك، ولكن ذلك لن يطول هكذا إلى الأبد؛ لأن هذه هي سُنة الله في خلقه، التي لا تتبدل ولا تتغير، فكما أن للباطل جولة ربما تطول، ولكن للحق جولات، فاستعل يا محتلي كما تشاء، فكل من هو مثلك في غيك وجبروتك، سيفعل كما تفعل أنت تماماً، ولكن تذكَّر فكما تستعلي وتصل القمة ستهبط مرة أخرى إلى الحضيض، فافعل ما تشاء؛ لأنك لن تبقى كما أنت الآن إلى الأبد، فاحبس يا محتلي كما تشاء، وقيّد وعذّب، واقتل وشرّد، وصادر ما شئت من الأرض، فأنت تدرك في قرارة نفسك أنك لست صاحب هذه الأرض، وسيأتي اليوم الذي ستطرد فيه منها شر طردة وستخرج مذموماً مدحوراً.

تجبَّر يا محتلي كما تشاء، وانظر إليَّ.. ألا تراني؟!.. أنا السجين لديك داخل زنازينك، تجرده من ملابسه وتفتشه تفتيشاً مهيناً بمناسبة وبدون مناسبة، فقط كنوع من الإذلال، وتحرمه من الماء والهواء والدواء، وها أنا ذا يا سجاني أثبت لك أنني قادر على حربك من داخل زنزانتك التي تعتقل جسدي بين جدرانها العفنة.

فمن قال إن السجين لا يملك أسلحة، نعم إنه يمتلك الكثير، ألا ترى يا سجَّاني كيف أن المعدة الجائعة التي أمتلكها اليوم باتت قنبلةً موقوتة ستنفجر في أي لحظة، ستدمرك، وستدمر سجونك البغيضة، فمن قال لك إنك حين تسجنني ستجردني من جميع أسلحتي؟!

ولنرَ يا محتلي مَن سينتصر في النهاية، وتذكر أن الأيام دول والدهر دولاب، فيوم لك، ويوم سيكون عليك، فتذكر واحسبها جيداً من الآن، أين ستكون غداً؟ وماذا سيكون مصيرك؟ لأنكم على هذه الأرض عابرون، وأنتم لا بدَّ زائلون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد