السَّكِينَة المفقودة

ويحتاج كل إنسان منا لفترات يصفو بها مع نفسه، ويبعد بها عن هموم الدنيا ومشاغلها ويفرغ نفسه وقلبه وعقله للعبادة والتأمل والتفكر والتدبر؛ ليقترب من الرحمن ويستزيد من الإيمان، فمن المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/08 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/08 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: "رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ" [الحجر: 2]، وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير هذه الآية على أنه إذا كان يوم القيامة، واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فأخرجوا، فقال من في النار من الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين، فالحمد لك يا الله على هذه النعمة العظيمة.

ويحتاج كل إنسان منا لفترات يصفو بها مع نفسه، ويبعد بها عن هموم الدنيا ومشاغلها ويفرغ نفسه وقلبه وعقله للعبادة والتأمل والتفكر والتدبر؛ ليقترب من الرحمن ويستزيد من الإيمان، فمن المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

ولعل الكثير منا ينتظر قدوم شهر رمضان؛ ليجد ما كان يبحث عنه من سكينة وهدوء وأجواء تساعده على محاولته في التغيير، تغيير نفسه أولاً ومن ثم من حوله، تغيير إلى الأفضل، وتغيير يحقق له مراده وهدفه في وضع نفسه على الطريق المستقيم، الطريق الذي يجعله سعيداً وراضياً في الدنيا، ويجعله من الفائزين في الآخرة، بإذن الله تعالى.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل نجد ما نبحث عنه في هذا الشهر؟ والإجابة الافتراضية هي نعم، كيف لا وهو شهر القرآن، شهر البركة والمغفرة والعتق من النار، شهر الرحمة والإحسان؟! كيف لا وفيه أُنزل القرآن؟! كيف لا وفيه ليلة خير من ألف شهر؟!

ولكننا مع هذا كله لا نجد السكينة والراحة!! نعم، بل على العكس جعلنا من شهر رمضان موسماً سنوياً للمشتريات والتسلية والسهر واللهو والمرح، فتجد الأسواق مكتظة بالناس ليلاً ونهاراً، بل ويزداد ذلك في الساعة الأخيرة قبل وقت الإفطار، وتجد التجمعات والجلوس في الطرقات حتى مطلع الفجر، حتى بيوت الله لم تسلم من تلك الفوضى، فتجد سوقاً خارج المسجد، وسوقاً بداخله، وكأن الناس كانت ممنوعة من الكلام طوال العام.

ومن العجيب في هذا الشهر أن تجد الناس حريصة كل الحرص على أداء صلاة التراويح في جماعة مع التهاون والتكاسل في الصلوات المكتوبة، والمثير للدهشة هو السرعة غير الطبيعية التي تهبط فجأة على المؤذن وإمام المسجد! فلا يكاد ينتهي المؤذن من النداء حتى يُقيم الصلاة، وتجد الإمام يُقصر في صلاة العشاء، ويُسرع حتى يتفرغ لصلاة التراويح، فلا وقت للتسبيح ولا للدعاء بعد الصلاة، ولا حتى لصلاة ركعتي السنة إلا خطفاً سريعاً، ولا مجال للمتأخرين، فتجد الناس في سرعة غريبة خوفاً من عدم اللحاق بالصلاة وما يتبعها من إحراج، في حال التأخير؛ حيث يكون في المسجد جماعتان ويختلط التكبير بالتكبير والركوع بالسجود، ولا يدري المصلون في الجماعتين مَن صاحب النداء!

ومن الأمور الجميلة أن ترى التواصل بين الأقارب والأحباب وصلة الأرحام، فالكثير من الناس يتفقدون أقاربهم في هذا الشهر المبارك، وهذا جيد طبعاً، ولكن يبدو أننا لدينا سوء فهم في تلك الزيارات، فتلك الزيارات إنما تكون لتفقد الناس والوقوف على احتياجاتهم، والسؤال عنهم وإدخال روح المحبة والتكافل بين الناس، ولكننا نجد العكس، فتجد البعض يهم بزيارة أقاربه حتى يزيح عبئاً من على كتفيه، وحتى لا يلومه الناس، وفي نفس الوقت يعتبرها فرصة جيدة للسهر والسمر حتى وقت السحور، وهذا بالتأكيد يزعج الناس التي تريد أن ترتاح قليلاً قبل أن تصحو للسحور ولصلاة الفجر أو للذين يشغلون ليلهم بالعبادة وقراءة القرآن.

ومن المؤسف حقاً ما نجده على شاشات الفضائيات من هذا الكم الهائل من المسلسلات والبرامج التافهة والهابطة لتسلية الناس، وكأن هذا الشهر شهر ملل وخمول وفراغ، فتجد الفضائيات تتسابق قبل حلول شهر رمضان بوقت طويل في التحضير لهذا الشهر، فشهر رمضان بالنسبة لهم موسم لتسويق مسلسلاتهم التي لا يحترمون فيها حرمة هذا الشهر الكريم، فتجد المشاهد الخادشة للحياء من مُجون وعُري وألفاظ ساقطة وهابطة، والناس تشاهد وتتابع بكل صدر رحب وبكل سرور، وكأننا في عصور الجاهلية الأولى، ولم يدخل الإسلام ديارنا بعد!! ولا أدري كيف تغير هذا الإنسان الذي كان قبل دقائق صائماً عن الشهوات، محافظاً على الصلوات، عابداً لربه، يدعو ربه تضرعاً وخفية، ويدعوه خوفاً ورجاءً، كيف انقلب هذا الإنسان فجأة لشخص آخر يجاهر بالمعاصي والذنوب؟!

فليس من الحكمة التفرقة بين نهار رمضان وليله، إنما رمضان كله خير، نهاره وليله، فلا يصح أن أكون صائماً عن الشهوات، عابداً لله طوال النهار، فإذا جن الليل تحللت من كل العهود، وأطلقت العنان لشهواتي، فهذا ليس من الحكمة في شيء.

إن حال الأُمة لا يخفى على أحد، فقد ظلمنا أنفسنا وتكالبت علينا الأمم، ورمضان فرصة حقيقية للباحثين عن التغيير الحقيقي والجاد، فلا يعلم أحد منا هل ستتكرر تلك الفرصة أم يكون قد انتهى الأجل، ويكون تحت التراب، فلنقتنص تلك الفرصة العظيمة، لعل الله يبدل أحوالنا إلى الأفضل.

وأخيراً أُذكركم وأُذكر نفسي قبلكم، فقد خاب وخسر من أدرك رمضان فلم يغفر له، يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [سورة البقرة: 183]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

اللهم بلِّغنا رمضان، وارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن، واكتب لنا فيه المغفرة والعفو والعتق من النار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد