حدّثنا نامق بن حمدان:
وصلنا أخيراً إلى أكناف أمستردام، بعد رحلةٍ عسيرةٍ قطعنا أغلبَ أشواطِها مشياً على الأقدام، متفرّقين ومجتمعين كأسرابِ اللّقالقِ والحمام، فللّهِ الحمدُ والمنّةُ ربِّ الأرضِ والأنام..
مشينا في شوارعها كالبُلهان، تائهين في الزمان والمكان، والأولاد يصطرخون فهذا جوعان، وذلك مُرهَقٌ وتعبان، والثالث من رحلتنا الغريبة ثَمِلٌ ونعسان..
وسألتُ نفسي: ما بالُ كل هؤلاء المُشَاة، ينظرون إلينا نظرات فيها استغرابٌ ومُجَافاة، حتى عثرتُ في واجهةِ أحد المحالّ التجارية على مرآة..
نظرنا إليها فأصابتنا دهشةٌ وجُمُود، يا إلهي أهؤلاء الذين في المرآةِ بشرٌ أم قُرُود؟! أم سَعَادِين تركضُ وتهرولُ فتذهبُ وتعود، لَعمري إنَّ عنصرَ البشريّةِ فينا مفقود، فكأنّ أحَدَنا من عند زوجةِ أبيهِ مَنفِيٌّ ومطرود..
غادرنا من أمام المرآةِ على استحياءْ، لا نعرفُ ضوابطَ السيرِ فَنَتَداخلُ فيما بيننا كَخِرافٍ تتباحثٌ عن كَلَأٍ أو ماءْ، فمتى سَيَحِلُّ الظلام فَتَستُرنا سدنةُ المساءْ؟!!
وصلنا مخيّمَ اللجوءْ، وكل واحدٍ منّا يِئِنُّ ويَنُوءْ، ينتظرُ أن يُكشَفَ عنّا ما حلَّ بِنا مِنْ سُوءْ..
استقبلونا بالحفاوةِ والتّرحيب، وكسونا ثياباً جديدةً فبدأ منظرُنا يتحسّنُ ويطيب، ثمّ اصطحبونا وبسرعةٍ إلى الطبيب، من أجل الفحصِ والتفتيشِ والتّنقيب، يفتّشُ في شعرنا عن القُمّلِ والصِّئبان، فهذهِ كما ادّعَوا إجراءاتٌ احترازيّة لا بدّ أن تُؤخَذَ بالحُسبان، فَمَنَاظِرُنا تَشِي بأنّ القُمّلَ يحبو في منازلنا على الحيطان..
وبعد أن انتهينا واسترحنا أشارت ابنتي إليّ وقالت: ما رأيكَ يا أبي أن تصطحبَنا إلى مدينةِ الملاهي؟ ثمّ نحتسي العصائرَ في واحدٍ من المقاهي؟ ونستعيدُ عافيتَنا فترتسمُ البسمةُ على شفاهي؟!
فَوَافقتُها الرأيَ فوراً ومضينا جميعاً، نحثّ الخطى ونمشي مشياً سريعاً، فرحينَ مُبتَهجينَ بعد أن أُحِيلَ هَمُّنا بهجةً وربيعاً..
وصلنا مدينةَ الألعاب، ولكنْ.. أبيتَ اللّعنَ…. فهنا شاقولةٌ تحلّقُ بسرعةٍ جنونيّةٍ حتى تناطحَ السّحاب، وهناك قطارُ الموتِ يمضي كالريحِ فلا تدري متى يكون الإياب؟ وإلى جوارهِ أرجوحةٌ خبيثةٌ لا أنصحكم ركوبَها يا أطفاليَ الأحباب، فلا أدري أهذه مدينةٌ لِلّهوِ أم مدينةُ الإرهاب؟!!
دعونا نرجع سالمين آمنين، قبلَ أن نصبحَ إذا ركبنا إحداها خائفين أو نادمين..
لكنّ ابنتي أصرّت وأشهرَت في وجهي سلاحَ الدّموع، وهو الذي حالَ بيني وبين الرجوع..
فأشفقتُ عليها، وأصغيتُ إليها، وسرنا إلى الشاقولةِ مرتجفين، واصطفَفنا مع المُصطَفّين..
صعدنا إليها وليتنا ما صَعَدْنا، فقد انتظرَ المُؤَرجِحُ حتى قعدنا، وضغطَ على الزّنادِ فلا تدرونَ كم عن الأرضِ بَعُدْنَا؟!
فبدأ الصراخُ والعَوِيلْ / ويا خجلتي من ابنتي إذا اكتشفَت خوفيَ الثّقيل..
وما زالت الشاقولة تعلو وتعلو، والكل راحَ ينتظرُ الفرجَ ويدعو، عسى تنتهي هذه المقصلةُ فَيَنْجُو…
توقَّفَت قليلاً في الفضاء، فأصبحنا معلّقين بين الأرض والسماء..
وعلى حينِ غفلةٍ من أمرِنا نزلَتْ بسرعةٍ جنونيّة، والريحُ تلفحُ وجهَنا لفحةً قويّة، فحسبتُ نفسي طيّاراً يُنَفّذُ غارةً جويّة..
وبشكلٍ عفويٍّ أمسكتُ بابنتي الصغيرة، فقالت: هل أنتَ خائفٌ يا أبتِ من هذه اللعبةِ الخطيرة؟! فَلَمْلَمتُ نفسي وتَنَحنَحتُ وقلتُ لها: معاذَ اللهِ أن أخافَ فأنا أشجعُ واحدٍ في العشيرة، ولكنني أمسكتُ بكِ لأنني قَلِقٌ عليكِ من شاقولةٍ حقيرة..
واستمرّ الدوران دوراتٍ ودوراتْ، والسرعةُ تزيدُ مرّاتٍ ومرّاتْ، ومعها يزيدُ خوفيَ المدفونُ بعيداً عن الشاشاتْ..
ثم صرختُ فجأةً فاستدارت ابنتي نحوي وقالت: مابكَ يا أبتِ وما هذه الدموع على عينَيكْ؟
تنزلُ بِغَزارةٍ وتبلّلُ خَدَّيكْ؟
الويلُ الويلُ بمَ سوفَ أُجِيْب؟! واللّهِ إنّ هذا لَسؤالٌ يحتاجُ جوابُهُ إلى ألفِ لبيب، ولا وقتَ لديّ للتفكيرِ والمُدَارَسةِ كي لا أقعَ في موقفٍ مُريبْ..
قلتُ لها بعد أن استحضرتُ الحِيْلَة: هذهِ دموعُ الفرح ِيا صبيّتي الجميلة، ولا تُكثرِي من الأسئلة السخيفةِ الطويلة، وإلّا ضربتُكِ الضربةَ الغليلة..
ثم رحتُ أُقاسي اللحظاتِ العِجافْ، حين تضاعفَت سرعةُ الشاقولة إلى أضعافٍ وأضعافْ، يبدو أنّ الموتَ سَيُكونُ حليفي في نهايةِ المطافْ..
ثمّ عاوَدَت ابنتي السّؤالَ فقالت: لماذا يخيّمُ على وجهِكَ الاصفرار؟!
فقلتُ لها: يا بنتَ الحِمَار، ألم أنْهَكِ عن كل هذا التّكرار، ثِقي تماماً أنّ هذا آخرُ إنذار، وإلّا فسوفَ تَلقيْنَ حَتْفَكِ على يدي هذا النهار..
بدأتِ الشاقولةُ تهدأُ قليلاً قليلاً.. بعدَ أنْ أخذَتنا أخذاً وبيلاً، ثمّ توقّفَت ونزلنا نزولاً مطمئِنّاً جميلاً..
وإذا بالمؤرجحِ يرحّبُ بنا باللهجةِ الهولندية قائلاً: آتْشْ بْلِيْڤ، فقلتُ في نفسي: آتش بليڤ أيّها السخيفْ، وما تدري أنّ أرواحنا خرجَت من أجسادِنا ثمّ أعادَها اللّهُ اللطيف، يميناً عليّ ألّا أركبها ثانيةً طالما أنّ الصيفَ يعقُبُهُ الخريف..
ثمّ استدرجتُ ابنتي إلى فمِ الزّقاق، بعيداً عن مرأى الناسِ والأصحابِ والرّفاق، وأخذتُ ألطمُها على وجهِها بعدَ أنْ جلبَتْ لي كلَّ هذا الخوف والإرهاق..
ورحتُ أنشد:
تبّاً إليكِ أيَا شاقولةَ الخوفِ ** هل أنتِ لِلَّهوِ أم صاغوكِ لِلعُنفِ؟!
ما إنْ صعدتُكِ حتّى صرتُ طيّاراً ** بلا سماءٍ ولا أرضٍ ولا سَقفِ
لمّا نزلتِ من العلياءِ هادرةً ** فارقتُ رُوحِيَ لولا آيةُ اللُّطفِ
فهل دفعتُ نقودَ الموتِ مُنتحِراً ** بل إنّ هذا لَعَمري قمّةُ السُّخفِ
عهدٌ عليَّ فلا آتيكِ ثانيةً ** هذا اليمينُ بلا كفّارةِ الحَلْفِ
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.