كم هو جميل أن يوجد شيء تستطيع الهرب من خلاله من ضجيج البشر، والترفّع عما يحدث حولك إلى حيث لا وجود لشيء عدا صوتك، وصدى صمتك، وصوت شجيّ مرفوق بلحن نابع من وحي الجمال يغازل مسمعك.
الموسيقى ومَن غيرها! الموسيقى وحدها تفعل بنا كل ما ذُكر وأكثر، الموسيقى تتجاوز حدود الانتماءات العِرقية والدينية واللّغوية، تخاطب فينا الإنسان الذي بداخلنا؛ لتفعل بذلك ما عجزت السياسة وغيرها عن فعله على مرّ الأزمنة والعصور.
الموسيقى وحدها لها القدرة على أن تُشربنا الخمر فجراً في كؤوس من أثير؛ لنصير بذلك روحانيين بامتياز.. نعم الموسيقى تفعل كل هذا، كيف لا والغناء سر الوجود، وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود؟! كيف لا والغناء سر الخلود!!
ولكم أشعر بالشفقة والاستغراب معاً حيال أولئك الذين لا يشعرون بجمال الموسيقى، أولئك الذين لا يصيبهم الخشوع من جمال الكلمات وأنين النّايات، أولئك الذين لا تخترق الموسيقى أحاسيسهم، أو أولئك الذين يصدرون في حقها فتاوى باسم الدّين، فلا يفوّتون بذلك فرصة دون تحريمها وإصدار حكم في حقها، رغم أنها لا تفعل شيئاً غير أن تحيطنا بكل مظاهر السعادة حين تغيب هذه الأخيرة عن واقعنا.
فالموسيقى لم تقتل يوماً روحاً، ولم تصفّق للإرهاب أو إسالة الدماء يوماً، بل على عكس ذلك فهي لا تفرّق بين بني البشر، عين الموسيقى عمياء لا تبصر أشكالاً ولا ألواناً، الموسيقى تنظر لنا بعين قلبها، تلك العين التي تحتوي كل إنسان.
فكيف إذن لشخص بكامل قواه العقلية والقلبيّة أن يمر عليه يوم كامل دون أن يشعر ولو للحظة بالحاجة إلى سماع القليل من الموسيقى؟ كيف يستطيع هؤلاء تحمّل ضغط الحياة والتّعايش مع كمية التناقضات المتواجدة دون أن يشعروا بحاجة إلى الهروب من كلّ هذا الضجيج عن طريق سماع الموسيقى؟ كيف تكتمل صباحات هؤلاء دون سماع صوت فيروز، وهي ترتّل "يا طير"، "راجعين يا هوى"، "أهواك بلا أمل" أو غيرها من ذلك المزيج المتكامل من كلمات، وألحان، وذبذبات صوت ملائكيّ وقضيّة؟ ألا يشعر شخص مثل هذا أنه في الظلمة يكتئب؟ وأنه يهدهده التعب؟ وأنه من غير الموسيقى يذوب وينسكب، كالدمع من المقل؟ ألم يجرّب شخص مثل هذا أن يدع الموسيقى تتغلغل إلى أعماقه فتجعله قادراً على اتخاذ الغاب منزلاً دون القصور، وعلى تتبّع السواقي وتسلّق الصخور؟
أكاد أجزم أن من يمر صباحه دون أن يغازل أذنيه صوت فيروز فلا صباح له، وأن من لا يؤمن بحاجته لورد يومي من الموسيقى فهو ناقص عقل، يرتكب جرماً بحقّ روحه البريئة.
بل أكثر من ذلك، أكاد أجزم – دون مبالغة – أن عدم سماع الموسيقى والخشوع فيها ومن خلالها جريمة لا يجب أن يعاقب صاحبها بقدر ما يجب أن يعي خطورة فعله.
لنا في الموسيقى بصفة عامة، وفي الموسيقى العربية الكلاسيكية ذات الأشعار الأصيلة بصفة خاصة حياة، فكيف إذن حين تتغنّى بها السيدة فيروز؟
ولأن الصباح يعني فيروز، ولأن كل معاني السعادة والأمل تنبع من صوت فيروز، ولأن الموسيقى لا تكتمل إلا بوجود فيروز، ولأنه لا أنين للنّاي إلا بمعانقة صوت فيروز.. من قلبي سلام لفيروز.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.