جلّنا وقف على تلك الحافة من الأشواك، احتار بين ألم شظايا الزجاج التي تأكل من أقدامه وترتوي من دمائه وبين القفز خلاصاً من كل شيء، بين إدمان جرعات الألم وبين الحد من الندم، بين السير على خيط الحياة الرفيع الذي تبقى له ويحفز جراحاً غائرة فيه وبين التحليق في الفراغ والغوص في العدم، بين أن ينتزع كل مرة شظية من روحك وجسده؛ ليكمل الصراع أو يسلم كل شيء مرة ويرفع كفنه راية بيضاء للاستسلام والسلام.
بعضنا وقفت حياته على هذه الخطوة فلم يتحرك إلى أي مكان، ظل هناك يبكي جبنه وتخاذله، هو القوي الذي أخفى عنهم هواجسه الغريبة، وكل السيناريوهات المثالية لانتحار سيشهد العالم لصاحبه المرحوم بالدهاء والقدرة على التخطيط، لكنه وقف هناك بلا حراك، حتى طبيبه النفسي الذي يزوره خلسة عن الناس كي لا يتهموه بالجنون لم يستطِع أن يعيده للحياة ولو بخطوة واحدة.. أحيانا ًلا يزيدنا الطبيب إلا غبناً، يذكرنا أننا مختلفون، وأن الحياة التي يستطيع الآخرون عيشها بكل تفاهتها ومرارتها بكل سلاسة نحتاج نحن أن نبلعها كل يوم بأقراص تشتت تركيزنا عن العبث، وتحاول لجمنا كي نكون أقرب ما نستطيع لما سموه إنساناً طبيعياً، لكن ما الذي يجعلهم طبيعييين؟
بعضنا فقط تجاهل نفسه وعوَّدها على القبول تحت مسمى هكذا هي الأقدار، ربما قدر بعضها الحياة موتاً والموت في الحياة ألفاً.
أموت وتموت في الحياة ملايين المرات، لم يعد يربطني بها غير المتين الذي لم أتجرأ يوماً أن أقطعه، كان يضخ الدم لقلب متعب غير قادر على الاستمرار في دورة الموت، دربي خطته دماء سالت في كل دقيقة عشت فيها الروتين والإحساس القاتل أني لا أنتمي إلى هنا، ربما ولدت بالخطأ وربما هي لعنة صادفت مولدي، لم أستمر في تشييع روحي والترحم عليها كل عمر، ولا أستطيع دفني كي أنسى، كي أصبح ذكرى وليعرفوا أني مت لأعيش.
أتدري ما الأسوأ من أن يسرق الآخرون منك أحلامك؟ أن يطلبوا أن يقايضوك إياها بسجادة جديدة على باب زنزانتك.. سيدوسون عليك قبل أن تدوس رجلاك على قطعة لن تغير منك أي شيء، ستعيش البؤس بلون وردي فقط، ستتوهم أنها السجادة التي ستدوس عليها وأنت خارج من هنا منتصراً على نفسك الخاضعة والآخرين، لكنك قابع هناك إلى ما لا نهاية.
لم أصادف في حياتي أحداً بكى وتوسل للحظة سعادة، كنت أخبر سجاني أني أموت داخل الزنزانة وأن الهواء يخنقني، أحتاج إلى أن أطل يوماً من الساحة كي أعانق السماء وأحاور العصافير، لكنه أخبرني أني محظوظة بسجني، وأن غيري تمنى لون جدراني الرمادية وتلك القضبان المنحوتة بحرفية.. أن الحياة لم تخلق لكل الناس، وأن البعض يجب أن يكتفي بهذا.. ما الاكتفاء؟
ربما جلنا يعيش هذه الحياة، لكنه يرتدي معها قناع الرضا رغم كل شيء لعل غداً يوم أفضل، أو على الأقل أقل وجعاً من البارحة، لن يكون بالضرورة هكذا.
ربما هي فقط روحك تعودت سوط الحياة فلم تعد تؤلمها الخيبات كما من قبل، تلك الخطوة الواحدة لدى معظم من واجهوا مصيرهم هي الإيمان، نخاف أن نخسر الله بعدما خسرنا كل شيء على هذه الأرض.
إنه ذلك الأمل الصغير فينا الذي أبى أن يموت فنموت معه، بعضنا ما زالت الحياة له إنساناً، خاف أن يرحل فيترك وراءه روحاً تتلظى بنار الفراق، وتبكي من كان يوماً الأمل والألم، السعادة والحزن، من كان يوماً الموت وتجلت فيه أسمى معاني الحياة.
بعضنا راهن بكل شيء على حلم جعله مغزى الحياة؛ شهادة جامعية، عمل، شركة، أو ربما شريك في هذه الحياة ليخسر الرهان ويخسر معه نفسه وكل شيء.
ليس من الهين أن ترى كل ما عشت له ينساب بين يديك ماء لا تستطيع تجميعه مرة ثانية، أن تترك قطعة منك في كل تجربة فاشلة أخدت منك الغالي والنفيس ولم تترك لك إلا أضغاث ندم وجروحاً غائرة لم تستطع آمالك المتهاوية المبعثرة أن تداويها، ليس من السهل أن تقاتل حتى آخر رمق لأجل من وزنته بالدنيا وباعك لأجل رغيف مغموس في الذل والمهانة بعدما نصبته الملك والسلطان.. البعض فقط مهما أعليت من شأنه يظل وفياً لأصله الخسيس.
ليس من الضروري أن تكون مررت من هنا لتشعر بكل هذا، أنا فقط أخبرك أن الانتحاريين هم أيضاً عاديون لكن بطريقتهم.. هم فقط تعودوا الإغداق في كل شيء؛ إما أن يعطوك الروح والآمال والجوارح أو لا شيء، لم يخلقوا ليقبلوا بالأنصاف وهم غالباً على حق فإما أن نحيا الحياة على حق أو نموت.
لكن بالرغم من كل هذه المآسي أريدك أن تتأكد أن هنالك مخرجاً من هذا النفق الطويل المظلم، ففي مكان ما بعيد عنك وعني الآن هنالك فرح كبير ينتظرنا ليعوضنا عن كل هذا.. فقط تريَّث وقوٍّ إيمانك واعلم أنك لست وحيداً، وتأكد أنه أقرب إليك من حبل الوريد، وأحَنّ عليك من عاقر رزقت بوحيدها بعد عمر من الانتظار واليأس، هو ها هنا ينتظر فقط أن تناديه، فهلمَّ إليه وإلى حضن الحياة؛ لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، ولأن ما بين البداية والنهاية يولد الإنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.