انفد بجلدك وانتقل من الدلتا .. النيل يواجه حربًا على جبهتين، ومصر الخاسر الأكبر

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/26 الساعة 12:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/26 الساعة 12:49 بتوقيت غرينتش

يتعرض نهر النيل لهجوم على جبهتين، بين سد النهضة العظيم الذي تبنيه إثيوبيا على منابع النيل جنوبًا، ومستويات سطح البحر متزايدة الارتفاع التي تغرق المصب بالمياه المالحة شمالًا. وكلا التهديدين يمثل خطرًا جمًا على مستقبل النهر الذي يُعد شريان الحياة لمصر.

ففي تقرير علمي نشره موقع جامعة ييل Yale قال الكاتب المختص بالجيولوجيا ريتشارد كونيف إن مصر قد تكون الفريسة القادمة للتدهور البيئي الذي يجتاح العالم، فسكان البلاد الـ95 مليون نسمة قد يقعون ضحية كارثة محققة.

الدلتا التي تقع شمال القاهرة وتمتد حتى البحر المتوسط على بُعد 160 كيلومترًا تقريبًا، يقطنها 50 مليون مصري، أي أكثر من نصف عدد سكان البلاد، لكنها لا تشكل سوى 2.5٪ من مساحة مصر الكلية، فيما يعيش بقية السُكان فيما تبقى من وادي النيل، الذي يمثل 1٪ من مساحة مصر.

تقول دراسة جديدة نُشرت على دورية المجتمع الجيولوجي الأميركي GSA Today وأعدها فريق بقيادة الجيولوجي جون دانيل ستانلي، أن مصر ستواجه "نقصاً خطيراً في المياه العذبة والطاقة في جميع أنحاء البلاد بحلول عام 2025″، ويعني ذلك أن الزراعة في الدلتا (التي تنتج 60٪ من الغذاء في مصر) ستعاني من نقص كبير في مياه الري.

وعلى الرغم من أن تقرير جامعة ييل يشير إلى سد النهضة باعتباره جبهة الحرب المائية في الجنوب، إلا أن تهديدات أخرى قد تشكل الخطر الأكبر على سكان مصر الذين يعيشون بالأساس على مياه النيل.

الجبهة الشمالية: البحر يحتل النيل ويبتلع أراضي الدلتا

على رأس التهديدات التي تواجه المصريين يأتي ارتفاع مستويات سطح البحر.

لا ترتفع معظم أراضي الدلتا عن سطح البحر سوى بمتر واحد فقط، ولذلك فقد توقع تحليل نُشر عام 2014 من فريق برئاسة الجيولوجي بجامعة أسيوط أحمد سيف النصر أن ارتفاع مستوى سطح البحر بنصف متر فقط سيؤدي إلى تقلص مساحة الدلتا بنسبة 19٪، أي ما يعادل ثلث مساحة لبنان تقريبًا. وهذا هو السيناريو الأكثر تفاؤلاً!

فإذا ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار متر واحد فقط، وهو المتوقع أن يحدث خلال هذا القرن، فإن هذا سيعني أن ثلث أراضي الدلتا (أكثر من نصف مساحة دولة قطر) ستختفي تحت مياه البحر المتوسط.

الزلزال الذي لا يهدم بيتك، يغرقك!

تجاهلت دراسة أحمد سيف النصر أن الأراضي في الدلتا تتعرض لانخفاض مستمر، خاصة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. الأمر سببه غريب! ففي مقابلة لاحقة، عزا جون دانييل ستانلي انخفاض الأراضي إلى النشاط الزلزالي في المنطقة.

يقول ستانلي إنه على الرغم من أن المنطقة تعتبر مستقرة، تشهد زلازل بقوة 5 درجات أو أكثر كل 23 عاماً، كما أن الزلازل ذات القوة الأصغر أمر معتاد لسكانها.

إضافة لذلك، فإن أراضي الدلتا تنحسر بالفعل، لأن تلك الأراضي لم تعد تتجدد بملايين الأطنان من رواسب فيضانات النيل سنوياً. إذ أن هذه الرواسب تتخزن خلف السد العالي. التي للمفارقة تُشكل دلتا جديدة الآن هناك، لكن تحت الماء!. وعزت دراسات أخرى زيادة النشاط الزلزالي في المنطقة إلى وزن السد والمياه المخزنة وراءه.


وإضافة إلى فقدان مستمر وشبه مؤكد يحدث لأراضي الدلتا، إلا أن الجمع بين ارتفاع مستوى سطح البحر وهبوط الأراضي سيزيد أيضاً من تسرب المياه المالحة. مصر بالفعل تُعد من بين أفقر دول العالم بالنسبة لحصة المواطن الواحد من المياه، إذ أن لديها 600 متر مكعب من المياه العذبة سنوياً لكل مواطن، بالمقارنة، مثلاً، فإن المقيم في الولايات المتحدة يتمتع بحصة 9800 متر مكعب من المياه العذبة سنوياً.

لكن وفقاً لدراسة سيف النصر، فإن تسرب المياه المالحة من ارتفاع متر واحد فوق مستوى سطح البحر يمكنه أن يهدد أكثر من ثلث مخزون المياه العذبة في الدلتا. ويقول ستانلي إنه "إذا تحدثت لأحد من المزارعين في شمال الدلتا، فإنه سيخبرك بأن إنتاجهم يتضاءل باستمرار، وأن خط المياه المالحة يتحرك نحو منتصف الدلتا. وهو الأمر الذي لا يبشر بالخير" خاصة مع التوقعات بتضاعف عدد سكان مصر خلال الخمسين عاماً القادمة.

الحرب من الجنوب: سد النهضة سيحرم مصر من ربع مياهها

أما التهديد الذي يعلم المصريون الكثير من تفاصيله فهو سد النهضة المقرر أن يكتمل بناؤه هذا العام على منابع النيل الأزرق، وهو فرع النيل الذي يعطي لمصر 59٪ من مياهها. إذ مولت الحكومة الإثيوبية سد النهضة بمبالغ تتجاوز 5 مليارات دولار، مع وعد بأن يولد السد 6000 ميغاوات من الطاقة. هذا كم كبير بالنسبة للإثيوبيين الذين يفتقر ثلاثة أرباعهم في هذه اللحظة إلى الكهرباء، كما أن بيع فائض الطاقة إلى بلدان أخرى في المنطقة قد يجلب إلى أديس أبابا مليار دولار سنوياً من إيرادات النقد الأجنبي التي هي في أشد الحاجة إليها.

لكن السد العظيم لن يمكنه البدء في الوفاء بهذه الوعود وتحقيق الفوائد المنتظرة إلا من خلال حبس مياه النهر التي ستمر عبر مجرى النيل إلى السودان ثم إلى مصر.


سينشئ هذا السد بحيرة ضخمة بعد أن تخزن إثيوبيا 74 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق، (هذا يماثل كمية المياه التي قد تغطي مساحة أقل قليلاً من مساحة سوريا والأردن لعمق قدم واحد). ملء هذه المساحة قد يستغرق ما بين 5 و15 سنة.

تقول دراسة ستانلي أنه "خلال هذه الفترة، ستنقص مياه النيل الواصلة إلى مصر بنسبة 25٪، وسيخسر السد العالي في أسوان ثلث قدرته على إنتاج الطاقة".

هل يمكن لمصر أن تحل الأمر؟

اهرب!
هذا باختصار ما تقوله الدراسة لسكان دلتا النيل.

إذ كيف يمكن لمصر، مع اقتصادها المتعثر، ووضعها الحالي من الاضطرابات السياسية أن تتعامل مع التحديات التي تهدد الحياة على أرضها بشكل واضح؟

على الرغم من الحديث عن تدمير السد الإثيوبي، فإن الحرب تبدو أمراً بعيد المنال. ففي عام 2015 وقعت مصر وإثيوبيا والسودان اتفاقاً مشتركاً لتجنب الإضرار ببعضهم البعض، وفي يناير الماضي زار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أديس أبابا واجتمع مع رئيس الوزراء الإثيوبي هالي ماريام ديساليغن. لكن اتفاقاً رسمياً حول كيفية تقاسم موارد النيل لا يزال مطلوباً.


مع غياب النيل عن المصريين كحق مكتسب، واختفاء دلتاه تدريجيًا في البحر، سيحتاج ملايين المصريين -للأسف- إلى البحث، حتماً، عن مكان آخر كسكن مستقبلي يصلح للعيش

بإمكان حكومة مصر وسكانها البحث عن حلول أكثر واقعية، فلكي تتجاوز البلاد الآن هذه الأزمة، بحاجة إلى الاستثمار في تحلية المياه العذبة، مثلما تفعل المملكة العربية السعودية، واستخدام وسائل الري الموفرة، مثل الري بالتنقيط مثلما تفعل إسرائيل. وفي الوقت الذي تواجه فيه مصر أزمة سكانية كبيرة، فإن الاستثمار الحكومي في تنظيم الأسرة قد يجدي نفعاً على المدى الطويل. ولكن، يقول ستانلي، إنه في كل الأحوال، مع غياب النيل عن المصريين كحق مكتسب، واختفاء دلتا النيل التدريجي في البحر، يبدو أن ملايين المصريين سيحتاجون إلى البحث، حتماً، عن مكان آخر كسكن مستقبلي يصلح للعيش.

يمكن لإثيوبيا من جانبها أن تقلل من الأضرار المباشرة في دول المصب عن طريق إطالة الوقت اللازم لملء الخزان. لكن هذا يعني، من ناحية أخرى، تأخير فوائد السد، التي قامت إثيوبيا بالفعل بترويجها بل وحتى ببيع بعضها. وهو الخيار بعيد المنال والذي لا يُتوقع أن تتبناه إثيوبيا، في الوقت الذي لا تمتلك مصر فيه أي أوراق ضغط على أديس أبابا، ولذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي قد تفعله القاهرة والمصريون من أجل الحفاظ على شريان حياتهم وحياة أبنائهم؟

تحميل المزيد