لقد بكيت، وانتهيت، وأنت تظن الآن أنني أفضل، ولكن الحزن فقط ينام، يكمن داخل عمودي الفقري لبقية حياتي، لم أفهم المقصد الذي قاله الطبيب حين أشار لورم كبير يحتمي وراء فقرات ظهري، ويخبرني أن هذا هو وليد همزات أحزاني المتتابعة ونومي بكل سوءات روحي وقلة بكائي.
لم أفهم مقصده حين قال إن هذا جنين الاكتئاب الذي مررت به عدة سنوات، ولم أتعافَ منه، يكبر الحزن في قلبي لأول مرة بصورة مادية، لم يعد يثقب القلب، ويوجع الأضلع ويختفي في الهواء، الآن قد صار لروحه القاتلة كيان يمتص قوته من جسدي المنهك، ويتغذى على كل فتات الأوجاع ويكبر، وسيقتلني يوماً، لم يكن يهمه أي شيء، إلا أنه سيكون قاتلي، هذا الذي من روحي اقتات.
تعابير وجهه كانت جامدة، ويداه تمسكان بقلم تحركه يمنة ويسرة وهو ينظر إليه، في إيحاءٍ جسدي كاذب بالاهتمام والتعاطف، هذا الذي يقول هذه الكلمات بصورة يومية لم يعد يشعر بما تجيء به من رصاص يثقب ما تبقى من الأمل، رصاصات تمر من جانبه دون أن تمسه بسوء، الأمر صار عادة.
هذا الإنسان الذي يسعى لكل ما يأتيه بنبأ المستقبل يتوجل حين يدرك آخرها، إنه يتهرب من النهاية، يغريه طول الأمل، هذا الإنسان يهاب الموت، حتى وإن كان كل شيء يركض نحوه، ثم إن حدث واصطفاه القدر أن يعرف متى تكون النهاية تزلزلت أركانه، كأنه حدث ما لم يتوقعه، الموت.. المتوقع الواقع دائماً.
لم أواجه يوماً شعوراً كهذا، أن تتعذب روحك، وليس جسدك، حتى إنك تتفحص مسامات جلدك باحثاً عن مهرب، تواسي نفسك، وقد يواسونك، تضمد الجراح فيك بألف من "معلش"، حتى تشعر أنك شفيت، بينما أنت في الواقع اعتدت على الألم، ثم إنك من كثرة التألم تتعود على موتك.. كما يتعودون على حياتهم.
إذاً أعد عليّ مجدداً: ما معنى مرضي وحتمية الموت؟! هل يبدو هذا جديداً؟!
إننا نحترق، نموت، ولدنا مرة، لكننا ندرك جميعاً أننا نموت ألف مرة قبل أن يفنى الجسد..
فلماذا أستاء إذاً؟ أعرف أن العزاء غير موجود، وأنها غير موجودة، أرض أحلامي المنشودة.. فلمَ أحزن؟!
قلت باسمة للطبيب هذا كل شيء؟!
لمحني من تحت نظارته البنية وهو ينظر لهذه الابتسامة الواسعة والحاجبين المرفوعين، ثم أردف بلهجة مضطربة: الأمل دائماً موجود.
أخذت القلم منه، وقلت له: دعني أحتفظ به ذكرى إن سمحت، بعينين متعجبتين قال: بالتأكيد هو لك.. هاربة من كل شيء إلا بقلم، هو الباقي حين ينهار كل شيء، ويبقى طرف غصة وقصة على طرف لسانك.
فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها، يقال إنها يجب أن تحزم أمتعة الرحيل، ترحل من حيث لم تأتِ، فتاة لم تأتِ بعد، عليها أن تذهب، أن تنزل سلماً لم تصعده، أن تنهي شيئاً لم تبدأه، حمامة لم تطِر بعد، ها هم ينتفون ريشها، واحدة تلو الأخرى.
لم ترُقني الحياة منذ البداية، كل ما فيها لم يستطِع إغرائي للبقاء، هذه النهايات التي تأتي على طبق من ذهب لماذا عسانا أن نركلها ونستمر في الركض؟!
وهذا القلب؟! ماذا عن هذا القلب يا الله؟ كنت أظنه مثقوباً مجرد ثقوب ستتكفل الحياة برتقها، لكنه هاوٍ، ساقط في حفرة عميقة، لا النور كافٍ ليراه فينتشله أحد، ولا الحياة تتكفل بردم الحفرة بالكامل فنعيش فيها محتمين عن سوءات الأيام، دون كل هذا الوجع، هذه الأحزان التي تأتي بصيغ مختلفة، ضاقت بها الروح، فتكفل الجسد بحملها؛ لينهي كل شيء بسلام.
أراني في المرآة كل يوم ولا أعرفني، ولا أدري إلى أين أريدني أن أذهب، أنا المتخمة بالأحلام، جاءتني لحظة الزهد التام، تاركة كل ما تمنيته تحت حائط بناه القدر في وجهي.
لطالما كنت قوية، أقسم لك، لم يكسرني شيء طوال هذه السنين، وأعلم أن ما مررت به لم يكن هيناً، لم يكن هيناً لفتاة مثلي، يدا قلبها خاويتان من كل ما سوى الأمل الجاف، الذي كان يزهر في كل ربيع برَطِبِ دموعها لكنه لا يموت، ولم تمت هي، لم تمت، هي بالأحرى لم تكن تشعر أنها ماتت إلا حين اصطدمت على حين حب بكل شيء، الحب هو ما جعل كيانها الهلامي الذي لا يهزم روحاً ينال منها كل شيء، تهاوت الحياة من قلبها مع ما تبقى من صمودها، فاصطادها المرض أخيراً، وهذه المرة رفعت له الراية وفتحت له أبوابها؛ ليقتحم تفاصيلها، وينخر كل حيز.
بعد عمر معين، وأقصد هنا ذاك العمر الذي تتوقف فيه عن الجري نحو شيء، تصبح السنوات في عدادك تكراراً رتيباً لكل شيء، أدق الأمور باتت تتشابه، الخط الزمني لا تكاد تدرك أوله من آخره من فرط الرتابة، وتشعر أنك لست على معركة مع الحياة، إنما مع أيامك التي لا تريد أن تنتهي، آخذة إياك وكل جميل فيك إلى الهاوية.
أنا لستُ حزينة على نهايتي، نهايتي التي اخترتها قبل أن تبحث عني، وتكتب قدري بيديه الجافتين، لقد شعرت أن حياتي انتهت منذ أول لحظة تلاشى فيها ما أشعر أني أضيفه، حين بدأت أتماهى في الجموع، في العادات والمعتقدات، في ملايين الأشباه صرت واحداً من آخر الصف، هنا.. أنا قد مِتّ.
" لا عالم يملؤكِ حتّى لو بقيَ شيء في الحياة تروّضينه وتحضنينه.."
إذا لم تستطع أن تصنع لنفسك حياة مميزة، فلتكن نهايتك مميزة، أنت التقليدي النسخة لن يبهرنا وجودك من عدمك، أنت الرقم وتعداد أسماء، أنت شيء من الأشياء.
ثم ماذا؟! هل هذا يكفي لتكفّ عن المواصلة؟! المحاولة؟ ذهاب الحب والشغف والكثير الكثير من الأحلام؟ هل هذا يكفي لنختار نقطة أبدية لكل شيء؟!
أتعلم لمَ يحزنني شعوري بالأشياء، النهايات، البدايات، الفقد، الاشتياق، التوتر، الغضب، السخط، والاحتجاج، بقدر ما أحزنني فقدان الشعور.. لا يمكن لي أن أصف جحيماً يوازي مثل هذا الجحيم، تساوي المشاعر في صحيفة قلبك يحطم المعاني، ولهذا حين جاء الحب مختلفاً، مجرداً مما سواه تشبثت به الروح، حتى إذا ما حدث وذهب أخذ معه ما تبقى، تاركاً عتمة لا ضيّ لها، مدينة لم يُخلق لها شموع.
عشت بقلب محطم لسنوات طوال، وحيدة من سوى بضع أمنيات، كل عام كان يمر ويسحب أمنية معه، يدهسها تحت قدميه ويلوح للعام الذي بعده ليتبادلا الأدوار عليَّ في مشهد سريالي عنيف، غادرتني الأشياء التي أحببتها أيضاً مثلما انسلت من بين يدي كل اللحظات التي جرحتني لشدة ما تمسكت بها.
لم يشعر أحدهم يوماً بي، لا أحد على وجه الأرض يعلم شيئاً عني، كنت أدرّب نفسي على عدم الاكتراث كل ليل، ثم أصحو لأدرب نفسي -مجدداً- على كنس الرماد، أو تقبل رائحته على الأقل، هادئة كقرميد ساكن، مشرقة كبدر، ومبتسمة كطفل في الرابعة تمسك يداه الحلوى ويلهو، وصلت لنقطة الصفر في كل شيء داخلي، طلبت منه في صلواتي أن يأخذ ما تبقى من الجسد، فلا حاجة لهذه الأرض به بعد ذلك، لكن لم يفعل، توسلت له مراراً فلم تسقط الإجابة من السماء وتعود لها بي، حاولت استلاب الروح من جسدي ولم أنجح.
تغير مسار حياتي عدة مرات، وضربني الحب حاملاً معه شيئاً من الأمل وروحاً نُفثت في الجسد، وكالغريق الذي توهمه القشة أنها نجاته تشبثت، تمنيت؛ لأنه لم يكن حيلتي إلا التمني، وتشبثت؛ لأن يدي الممدودة تعبت، الحب يعني أنك وبمنتصف كل هذه الفوضى، كل هذا الشعور، كل هذه المنافي وكل هذا العمر الضائع، ستجد ملجأك.
في نهاية كل أمر ستجد ملجأك، حتى إنني لم أعرف كيف يحب أحدهم الآخر ويُعجن فيه دون أن يخاف ولو للحظة أن يفقده.
لقد أحببت كل الآخرين من أعماق قلبي وقلقي، وكنت على استعداد كامل للانتماء لهذا المنفى الذي أدري أنه لا أرض بعده ستتذكرني، هل تفهم معنى ضياع ملجأ المنفيّ الغريب؟ ثم إنك – يا صاحبي – في لحظة السقوط تتمنى لو أن هذه الأذرع قطعت قبل أن تمتد ببالِ الأمل، فحين السقوط لن تجد نفسك إلا مصلوباً، مضيفاً لميتاتك ميتةً أخرى، لكن هذه المرة كل ذرة في جسدك تشعر بها، كسُم رديء لا ينتهي منك.
ثم تحزن، وصدقني، الحزن بحد ذاته شجاعة، عندما تحزن فأنت تتخذ موقفاً من الحياة بأن ما تفعله بك لا يناسبك تماماً، ثم إنك قد تبكي، ثم إنه قد لا يشعر بك أحد مجدداً، ثم إنك من فرط الحزن تعود لسيرتك الأولى مبتهلاً بنهاية تليق بالمحارب الذي ضاع في منتصف الطريق، لا هو الذي عاد، ولا هو الذي وصل مضمار القتال فمات بشرف، تتمنى شرف الموت، شرفاً لم تنله يوماً.. كل الضرب الذي يفترض ألا يقتلنا، قتلنا بالفعل، كانت جُل المشكلة أننا لم نداوِ الروح كما نداوي الجسد، فاعتلّت الروح وتداعى لها الجسد مواساةً وعزاء.
لا يوجد ما هو أشد خطراً على مبادئ إنسان من حالة يأس، ثم إنني أمرض أكثر، أسمعهم يرددون عبارات العتاب، يمد لي أحدهم يديه، أكثرهم عجزاً عن الحياة، ما هذا الهراء؟!
الكثير من التحاليل وقلةٌ مندسّة من المسكنات، مستلقية في الغرفة البيضاء، وصوت كمان عتيق يُخيل لعقلي بهلوسة أن أسمعه، والشمس والنور الذي يأسر الغبار، والزمن الذي ضاع، إنها اللحظة التي أدركتُ فيها أنه فات الأوان لكي أعود.
كل الكلمات تُمحى أمام الأحاسيس، هذه الأحاسيس التي لم يُقدر لي أن أعبر عنها، ذهب البعض قبل أن يسمعوها، وسأذهب قبل أن أخبر بعضهم الآخر بها.. ما أقصر الحياة أمام لحظة لم نعِشها !
للأسف كنتُ أكذب، لم يكن الحشيش يوماً أخضر!
لم أكن أفكر في وصيتي بقدر ما تمنيتُ شاهداً على قبري بعبارة هندية قديمة:
" نحبّ الأرض، لكننا لم نتمكّن من البقاء عليها."
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.