حجابها منعها من الدراسة وجعلها عاملة فصوتت بـ”نعم”.. رسالة فاطمة للرئيس أردوغان بعد فوزه

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/17 الساعة 16:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/17 الساعة 16:32 بتوقيت غرينتش

فاطمة، العاملة التركية التي تذكرني دائماً بطيور القطا وهي تنتقل بخفة من زاوية إلى أخرى، كانت تقدم الشاي بابتسامة تفتح الشهية صباح الإثنين 17 أبريل/نيسان 2017، فقد فاز معسكر "نعم" في استفتاء يعد تاريخياً بمنح الرئيس رجب طيب أردوغان صلاحيات من شأنها تغيير تركيا إلى الأبد.

المرأة الأربعينية كانت تاريخياً من أنصار حزب "السعادة" الذي أنشأه نجم الدين أربكان، قبل أن تُغير ولاءها لحزب إسلامي آخر أسسه عام 2001 تلامذته السابقون في حزب الفضيلة الذي حظرته السلطات، وأطلقوا عليه اسم "العدالة والتنمية".

ورغم الصراع الذي عاشته طوال الأيام القليلة التي فصلتها عن يوم الاستفتاء الموعود، ما بين "نعم" و"لا"؛ كطفل دخل للتو متجر ألعاب ولا يعرف أي واحدة يختار، فإنها حسمت أمرها أخيراً.

وكانت راضية تماماً عن النتيجة: 51.41%. "هذا ما أرادته بالضبط، لا أكثر ولا أقل". فبحسب رأيها، إن انتصار أردوغان كان "انتصاراً محملاً برسائل" مؤيديه الخائفين من تغيير نظام برلماني عاهدوه وجربوه وعرفوا أسراره، محاسنه ومساوئه، لكنهم اعتادوه خلال عقود طويلة حتى بات تغييره أمراً يشق عليهم.

هذه الرسالة بالتحديد وصلت للرئيس المنتصر أردوغان. فعلى غير عادته لم يحتفل بالنتائج. وبدل أن يُخاطب الجماهير من الشرفة كما عهده أنصاره في كل انتخاباته السابقة، دعا الصحفيين إلى القصر الرئاسي بالعاصمة أنقرة، وتحدث إليهم نحو 10 دقائق، شكر فيها من وافق على التعديلات الدستورية، وتحدث عن الزمن الذي كان يحدث فيه مثل هذا الأمر بالانقلابات العسكرية، قبل أن يُعلن نهاية الليلة، ويختفي وراء الأبواب.

الأتراك الذين أُنهكوا تماماً طوال فترة الحملات الانتخابية بكثافتها ولوحات "Evet" التي باتت مشهداً يومياً كلما خرجوا من منازلهم وكلما قفلوا راجعين إليها، أغلقوا صناديق الاقتراع عند الساعة الثانية بتوقيت غرينتش مساء يوم الأحد 16 أبريل/نيسان قبل أن يفتحوها على نتيجة حملت الكثير من الرسائل لأردوغان رغم حصوله على ما كان يريد. فقد قال الأتراك كلمتهم بتغيير نظام الحكم في البلاد من البرلماني إلى الرئاسي بمنح صلاحية أكبر للرئيس، وإلغاء منصب رئيس الوزراء، ولكن بنتيجة جاءت عكس ما كان يتوقعه كثيرون بأنها ستكون أكبر.

إذاً، فقد فاز أردوغان وحقق الحلم الذي ربما كان يراوده كل ليلة يضع فيها رأسه على وسادته طوال 15 عاماً قبل أن يخلد إلى النوم. لكن الفوزَ المنشود "فوزٌ مشروط" أو كما يحب أنصاره المترددون الذين صوتوا بـ"نعم" بقلوبهم فيما كان عقلهم يحثهم على "لا"، أن يسموه "الفوز المحمل بالرسائل".

الرسالة وصلت أيضاً لشوارع إسطنبول التي شهدت ولادة أردوغان ورأته يترعرع ويكبر إلى أن أصبح ما هو عليه الآن؛ فعلى غير عادتها، بدت بعد الفوز هادئة، واحتفاء أنصار "العدالة والتنمية" كان باهتاً أمام مقرات الحزب في المدينة، فيما اكتفى سكان أحياء البلديات التي صوتت أغلب سكانها بـ"نعم"، مثل "باهتشيلي إفلار"، بجولات متواضعة في الشوارع. ربما كانوا يعلمون أن الفوز بشِقِّ الأنفس ترك وراءه مجتمعاً محتقناً، فقرروا حفظ كرامة خصومهم بعدم المبالغة في الاحتفالات والإيواء إلى أَسرَّتهم باكراً كما يفعل المحاربون الذين أنهكتهم المعركة.

ولعل الذي ألهمهم على فعل هذا هو أردوغان نفسه بخطابه القصير وهدوئه وحزمه في دعوة معارضيه للقبول بالنتائج؛ لتتمكن تركيا من أن تخطو خطوتها التالية لتتجاوز الأشهر المريرة من عدم الاستقرار وخفض قيمة العملة التركية وتراجع السياحة وتزايد ضغوط النفقات اليومية على شعب لم يعرف طوال 15 عاماً سوى الازدهار الاقتصادي وأتعبته حالة الاستقطاب الشديد ما بين "نعم" و"لا" في الشهرين الأخيرين.

كيف جاءت هذه النتيجة؟


فاطمة نفسها لم تنجُ من حالة الاستقطاب هذه رغم ولائها للرئيس الذي "انتقم" لها أخيراً من عدو جعلها تصبح عاملة وهي التي تكاد تأكل الكتب أكلاً كلما تسنت لها لحظة فراغ؛ لتتابع قراءة أحداث الروايات التي تتبدل أغلفتها وعناوينها 3 مرات شهرياً.

قبل أن تصل لقرارها أخيراً، عاشت هذه السيدة حالة تردد كبيرة؛ إذ لم تعرف حينما التقيتها في الطابق السادس من المبنى الذي تشتغل فيه بإسطنبول، صباح السبت 15 أبريل/نيسان، ما إذا كان عليها أن تُساند التعديلات الدستورية أم لا.

في لحظة ما، قالت لي إنها ستصوت بـ"لا"، ثم عادت بعدها لتخبرني بأنها قد غيرت رأيها، "سأصوت بـ(نعم)".. انسحبت من المكان الذي كنا فيه، قبل أن ترجع من جديد وترمي لي بهذه الكلمات: "أووف.. رأسي يؤلمني من كثرة التفكير، لا أعرف حقاً ماذا أختار".

ومع ذلك، بدا أن فكرة ما قد ترسخت بالفعل لديها حول الأمر مع مرور الزمن؛ إذ تقول إنها سعيدة بالنظام البرلماني القائم حالياً، وليست متحمسة لتغييره، "لكن المعركة مختلفة تماماً هذه المرة"، على حد تعبيرها.

طلبتُ منها أن تكشف لي قصة المعركة، فتوقفت قليلاً عن الكلام، قبل أن تستأذنني في أن تنهي أولاً سيجارتها محلية الصنع قبل أن تشرح كلامها. سحبت نفساً عميقاً وهي تنظر من زجاج النافذة جهة مبنى تابع لبلدية "باهتشيلي إفلار" التي يُديرها حزب العدالة والتنمية الإسلامي بإسطنبول، وكأنها تحضر لي جواباً من هناك.

الحجاب والدين


تلمست فاطمة رأسها بيديها وتأكدت من أن حجابها كما تُريد قبل أن تكشف لي ما سألت عنه. قبضت بشدة بيدها اليُسرى على الجزء المنسدل من حجابها، وأشارت باليمنى إلى رأسها وهي تنظر إلي، قبل أن توجه لي الكلام: "هذا هو السبب! ولأجله فقط سأصوت بنعم، فإخوتي كلهم مهندسون معماريون، بينما أنا الآن عاملة، و ذنبي الوحيد في ذلك هو أني كنت بنتاً محجبة قبل عقود، فلم يُسمح لي بذلك دخول أي جامعة".

كانت تتمنى في شبابها ومراهقتها أن تكمل دراستها مثل إخوتها الكبار، لكنها كبرت واكتشفت أن لا مقعد لها في جامعة تركية ما لم تُزل الحجاب عن رأسها، حيث لم يكن يسمح لمثلها بدخولها بموجب "لوائح اللباس في المؤسسات العامة" الذي صدر في بلادها بعد انقلاب 1980 العسكري.

حاولت أن أقاطعها؛ لأخبرها بأن الماضي الذي عاشته هي ربما يجب ألا يكون سبباً في اتخاذ قرار يهم مستقبل أبنائها، لكنها كانت مصرّة ذلك اليوم: "لا، أنا لن أسمح لهم بأن يمنعوا المحجبات من جديد في هذه البلاد.. سأصوت بـ(نعم) بكل تأكيد".

مشهد آخر: مُعارض


في مساء السبت 15 أبريل/نيسان، كنت واقفاً في منزلي الجديد الذي يبعد 15 كيلومتراً عن البناية التي التقيت فيها فاطمة صباحاً، أسمع رأي "أُوزان" الكهربائي الذي جاء ليوصل لي خطوط الإنترنت، حول النقاش الدائر في البلاد.

يبلغ أوزان 28 عاماً، وتنحدر أصوله من مدينة طرابزون المطلة على البحر الأسود شمال البلاد، والتي وافق أغلب سكانها على التعديلات الدستورية وفق نتائج اللجنة العليا للانتخابات التركية، ورغم أن منطقته التي تعود إليها أصول أردوغان محافظة، ويُوالي أهلها دائماً حزبه، فإنه كان مُعارضاً بقوة لما يُريده الرئيس التركي هذه المرة.

يقول وهو يُحاول أن يثقب إطار نافذة غرفة الجلوس ليُمرر إليها خيطاً، إنه لا مشكلة لديه مع النظام الرئاسي، "لكنني لم أفهم أبداً لماذا سنحتاج لـ600 نائب في البرلمان!".

أوزان لا يهمه أي شيء من مواد الدستور الـ18 الجديدة سوى ما يتعلق بعدد النواب، حيث يُحدده الدستور القديم بـ550 مقعداً، فيما سيُصبح الآن 600، مع خفض سن الترشح الأدنى من 25 إلى 18 سنة.

وينهي حديثه بسخرية قائلاً: "كنت أصوت دائماً لصالح حزب العدالة والتنمية مثل كل أهالي منطقة البحر الأسود، لكنني هذه المرة سأستيقظ صباحاً يوم الأحد لأرمي بـ(لا) في وجه هذه التعديلات، ماذا تركه الـ550 نائباً لأستفيد منه مع الـ600؟!".

ما بعد النتيجة


أما فاطمة، فقد التقيتها من جديد الإثنين 17 أبريل/نيسان، بعد أن ظهرت نتائج الاستفتاء؛ إذ فاز معسكر المؤيدين للتعديلات بفارق بسيط جداً عن المعارضين، وكان هذا السؤال يعصف بذهني: هل هذه هي النتيجة التي تريدها يا تُرى؟

ردت على أسئلتي حول الأمر بثقة، قائلة إن "هذه النتيجة أسعدتني كثيراً؛ فهي تضمن لي بقاء الحزب الذي أؤيده، كما تضمن لي أيضاً شيئاً أكثر أهمية، وهو أن أردوغان تلقى رسالتنا بأننا لسنا مطمئنين كثيراً للتعديلات، وهو بكل تأكيد سيأخذ ذلك بعين الاعتبار".

وتزيد: "لا بد من أنه فهم أن الشعب سينزل للأسف حينما يرى أنه لم يعد يستحق المكان الذي رفعه إليه، ولهذا أتوقع منه أن يتكامل بذكاء ومنطق أكثر من الفترة الماضية".

جاسوس!


على مقربة منا، كان شاب في الثلاثينات من عمره ينظف أرضية المكان، ويبدو أن الحديث أثار انتباهه فقرر أن ينظف النقطة نفسها عدة مرات، لعله يستمع أكثر لما كنا نخوض فيه.

لم يتمالك الشاب نفسه، حينما سمع كلام فاطمة، حيث أخذته الحماسة وبدأ يتحدث إليّ من دون أي مقدمات: "اسمع يا صديقي، أنا في الانتخابات الثلاثة الماضية كلها صوّتُّ لصالح أردوغان، لكنني هذه المرة رفضت التعديلات الدستورية، وألقيت بـ(لا) في الصندوق".

ويشرح فاروق أكثر فيقول: "في عام 2002، ذهبت لأؤدي خدمتي الإجبارية في الجيش، لكنني صُدمت بالواقع هناك، لم أكن أستطيع أن أصوم أو أصلي، وبعدها ظهر أردوغان وبدأت أنتخبه".

ويضيف: "هذا الرجل فعل الكثير لنا، صحيح.. لكنني لم أستطع أن أقبل منه تغيير نظام الحكم، في نظري النظام البرلماني هو الأفضل لنا دائماً، والدليل هو ما حققته بلادي في السنوات الأخيرة".

وينهني كلامه قائلاً "الآن، حصل ما حصل، مرت التعديلات، ولكن الأمر لم ينته، وأتمنى من الرئيس أن يستوعب جيداً رسائلنا، وأن يتحرك بخطى لا تثير غضبنا، فبعد سنتين ستكون هناك انتخابات رئاسية، ومن يدري ربما حينها لن يدعمه حزب الحركة القومية فيفقد 10% على الأقل من داعميه الآن، وحينها سيحتاج إلى أصواتنا".

وتتفق غونول تول، مديرة مركز الدراسات التركية التابع لمعهد الشرق الأوسط، مع رأي أوزان وفاطمة، حيث ترى أنَّ على أردوغان أن يتّبع مساراً أكثر اعتدالاً، وأن يستأنف ربما عملية السلام مع الانفصاليين الأكراد.

وقالت في حديث مع صحيفة واشنطن بوست الأميركية، إن "النتائج تُظهِر أنَّه خسر جزءاً من جمهور ناخبيه، وأنَّه لم يتمكَّن من حشد القوميين بالقدر الذي كان يرغبه. ويتطلَّب كل ذلك نغمةً مختلفة من أجل الانتخابات الرئاسية المُقبِلة في 2019. وعليه أن يستميل الوسط، وأن يتَّخذ خطواتٍ كبيرة لمعالجة تراجُع الاقتصاد التركي".

الأسرة


انتهى دوام فاطمة على الساعة الخامسة مساءً، وجاء وقت التحاقها بالمنزل. زوجها رجب، الذي يشتغل في مجال الكهرباء، يأتي إلى العمل ليأخذها معه كل يوم، وقد أخبرتني قبل انصرافها بأنه ناخب وفي حزب الحركة القومية الذي دافع عن التعديلات، لذلك صوّت هو الآخر بـ"نعم"، عكس ابنتهما أسلي، التي تدرس في السنة الأخيرة من الثانوية.

تبلغ أسلي من العمر 18 عاماً، وترى في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، المنقذ الوحيد لما اعتبرته "بداية تخلي تركيا عن مبادئ العلمانية على يد حزب العدالة والتنمية"، ولهذا صوتت بـ"لا" على التعديلات الدستورية كما نادى زعيم الحزب كمال كليتشدار أوغلو.

تُعيد فاطمة سبب اختلاف آراء ابنتها غير المحجبة مع آرائها هي إلى شبابها، "فهي لم تعش أزماتي نفسها، لذلك تختلف مطالبها عن مطالبي".

لكنها تحترم ما قررته، ولا تتدخل أبداً في ذلك، رغم أنهما يتناقشان في الموضوع من حين لآخر، حيث تحاول كل واحدة منهما إقناع الأخرى بأفكارها.

تحميل المزيد