الحسناء

اقترب يوم العيد فاستعدت لعودة زوجها وأعدت أطايب المأكولات وزينت البيت، ولبست أحسن حليها وثيابها، فكان أن اتصل ليخبرها أنه سيقضي العيد في الدار البيضاء بعذر العمل، لم تكن أسبابه مقنعة لها، ونبرة صوته بدت لها مختلفة، تيقنت أنه لن يحبسه عن قضاء العيد في بيته إلا أمر جلل، قضت الليل كله تفكر: كيف تترك زوجها وحيداً في محنته؟ لعله مريض يخفي مرضه عنها، لعله في مشكلة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/12 الساعة 01:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/12 الساعة 01:36 بتوقيت غرينتش

وُلدت في بيت فلاح نشيط، كانت بنته البكر، علمها الفلاحة بكل تفاصيلها منذ نعومة أظفارها، ولم تكن مسؤوليات الحرث والسقي والجني وإحضار العشب للأبقار، وحلبها، وإحضار الحطب من الغابة، لتعفيها من مسؤوليات أنوال، ومن مسؤوليات البيت عامة، فالكل يناديها لتخدمه من الجدين إلى الوالدين إلى إخوتها الصغار.

كانت أيامها شاقة جداً، تستيقظ باكراً تملأ الجرار من العين، تحضر الحطب، تقدم العلف للمواشي، تحلب الأبقار، تعد الحساء الصباحي واللبن والقهوة وتقدمها مع التمر، تتفقد المنحلة والحقول ونوبة السقي وتحضر الحشيش، تعد الفطور تقدمه ثم تعود للحقل لتباشر السقي أو الحرث.

لا يخلو موسم من عناء من نوع مختلف، فموسم الحصاد والقطف ليس أهون من موسم الزرع والحرث والسقي، كبرت فازدادت جمالاً ونوراً، جمالاً أطلسياً نقياً، لم تعرف بشرتها المساحيق، ولم يكن جمالها الطبيعي بحاجة لشيء أصلاً، وإضافة لجمالها أوتيت قوة ربما من عملها الدؤوب، لم يكن أحد يجرؤ على سرقة نوبة الماء أو شيء من المحصول.

حسناء القوية الحكيمة، كانت مع قوتها لا تظلم أحداً، بل تكرم وتساعد، أوتيت قوة الحجاج وذكاء وحكمة كان والدها يستشيرها في كل صغيرة وكبيرة، كبر إخوتها الذكور مدللين، وبقيت وحدها تحمل هم العائلة.

على الرغم من مكانتها ووقارها لم تكن سعيدة، فكل أيامها شقاء، تقدم ابن عمها لخطبتها فوافقت على الفور، كان تاجراً ثرياً بالبيضاء وهو طيب خجول حامل لكتاب الله، انتقلت إلى بيته في القرية المجاورة، كان يغيب عنها لأسابيع ثم يعود ليجدها قد أعدت له مخزوناً من السمن وزيت أركان وأملو والعسل.. وقد اعتنت بأهله وبمواشيه وأراضيه على أكمل وجه، أحبته لأنه كان رحيماً بها أكثر من أهلها الذين ما زالوا يستدعونها بين الفينة والأخرى للحرث أو الحصاد أو غيرها.. وحرصت على إرضائه في أهله فكانت أبرَّ لهم من أبنائهم.

مرت سنة على زواجهما، أنجبت طفلة، فزاد تفانيها ولم تطالبه قط بأن ترافقه للمدينة، كانت تحرص على طاعته.

اقترب يوم العيد فاستعدت لعودة زوجها وأعدت أطايب المأكولات وزينت البيت، ولبست أحسن حليها وثيابها، فكان أن اتصل ليخبرها أنه سيقضي العيد في الدار البيضاء بعذر العمل، لم تكن أسبابه مقنعة لها، ونبرة صوته بدت لها مختلفة، تيقنت أنه لن يحبسه عن قضاء العيد في بيته إلا أمر جلل، قضت الليل كله تفكر: كيف تترك زوجها وحيداً في محنته؟ لعله مريض يخفي مرضه عنها، لعله في مشكلة.

صلت الصبح وحزمت حقيبتها وحملت ابنتها وانطلقت للبيضاء التي سرقت منها زوجها يوم العيد.

نسيت الجوع رغم طول الطريق، وكم طالت عليها الطريق وضاقت بها الدنيا، فهذه أول مرة تسافر فيها.

وصلت إلى المحطة واستدلت على العنوان، فوجدته بمشقة فلم تكن تتكلم غير الأمازيغية.

وقفت أمام العمارة التي يسكنها زوجها، فلفت انتباهها كثرة الداخلين والخارجين والصخب والموسيقى، فأخذت تسب وتلعن أهل الحضر في نفسها الذين لا يراعون حق الجوار فزوجها مريض وجيرانه يطبّلون.

صعدت الدرج، سألت عن الشقة، فوجدت الباب مفتوحاً، دخلت ووقفت ذاهلة وسط الجموع، بحثت عنه بعيونها ونبضات قلبها تتسارع، فرأته جالساً وقربه عروس، ترددت للحظة ثم انطلقت بقوة نحوه وهو لم يلحظ وجودها، كان منشغلاً بالحديث إلى عروسه، قبل أن يتلقى صفعة أدمى لها وجهه، نظر إليها غاضباً ولم يزد على: أنت طالق، طالق طالق.

نظرت إليه نظرة قالت فيها كل شيء، تراجعت خطوات وهي تحاول التماسك كي لا تسقط رضيعتها، فاضت دموعها، ألقت عليه نظرة أخيرة، ضمت طفلتها بقوة، ثم أسلمت أمرها لله، وعادت أدراجها مطلقة ليلة العيد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد