عندما التقيت بالمواطن العربي "أ.س" لم يخطر ببالي أن أطراف الحديث ورفقة المسير ستأخذنا في الحديث إلى أبعد مما تحتمله رفقة عادة، وإذا بدأ حديثنا بشكل اعتيادي، فإن الرغبة العارمة لدى "أ.س" كانت واضحة في أن يخرج ما في جوفه من كلام يحبس أنفاسه، وقد احترمت رغبة "أ.س"، وأفسحت له المجال؛ ليعبر عما يريد، لعله يكون به شيء من راحته النفسية، ولم أكن أتصور أنني سأنشد إلى قصته، وأني سأدون ملاحظات أو سأكتب تدوينة خاصة عما يغص به حلقه، لا أنكر كم أثر كلامه عليَّ، وكم شعرت بتعاطف معه، ورغبة في إيصال ما مر به، ليس لأنه كان معتقلاً في أحد سجون الدول العربية، أو لكونه سجينَ رأي، بل لما حملته كلماته من إحساس صادق ووصف المعاناة التي يمكن إسقاطها على أي معتقل، أو سجين في بعض سجون الدول العربية، ولكثرة التفاصيل التي حملتها كلماته، والأيام التي قضاها، والتي تستحق أن تكون قصة منفردة بحد ذاتها، إلا أن قررت أن أكتب عن 28 ساعة تلخّص الحكاية، وتوصل الرسالة.
يصف "أ.س" تلك المرحلة بقوله: كنت نائماً على الأرض، ويداي مربوطتان إلى الخلف، ومعصوب العينين، واقترب الفجر على الأذان، بدأت أسمع أصوات الأقدام تقترب، وبدأ الباب الخارجي يفتح، وهنا كان يجب النهوض بأسرع وقت، حتى لا يصل إليه السجان وهو على الأرض، حتى لا يتعرض إلى الضرب والكلام النابي.
لم يخفِ "أ.س" سعادته بأنه نجح في الوقوف في الوقت المناسب، بل تعدى ذلك عندما قال له السجان: إذا كنت ترغب في الخروج إلى حمام وتجهيز نفسك لصلاة الفجر، وكيف يرفض "أ.س" هذا الطلب، وكيف لا يسعد به، وهذا يعني أنه كسب نصف ساعة في هذا اليوم دون يد مقيدة أو عين معصوبة، وما هي إلا لحظات حتى كان "أ.س" يجهز للوضوء، وحسم أمره سأصوم اليوم، ولمَ لا وهذا يوم عرفة الذي لم أتركه منذ صغري.
كان يجب على "أ.س" إخبار السجان بهذا القرار حتى لا يفهم أنه يخوض إضراباً عن الطعام، وبالتالي يعرض نفسه لمزيد من الإجراءات القمعية لثنيه عن إضرابه، وهنا رد السجان قائلاً: جميعكم بدّكم تصوموا، طيب ارجع الزنزانة وأنا أخبر الإدارة عن قراركم بصوم اليوم.
عاد سجننا إلى زنزانته، وبدأ الوقت ينفد فما هي إلا لحظات وكان موعد الفجر قد حان، وسمع صوت الأذان، ومع ذلك كان حظ أسيرنا لم ينتهِ بعدو فلم يعد السجان وبقي أسيرنا لساعات غير مربوط أو معصوب الأعين، ومع شروق الشمس بدأت الحركة في الساحات الخارجية، وسمعت أقدام تقترب من الأبواب الخارجية، فتح الباب ودخل شخص وبدأ بالكلام، سرعان ما تعرف أسيرنا على صاحب الصوت، كان المحقق "م.ب"، لم يكن نطق اسم الضابط سهلاً على "أ.س"، وحمل في طياته كثيراً من الغضب والحقد، كيف لا وقد عرف عن هذا الضابط الحقد والعنجهية ومخالفة كل القوانين داخل السجن، وتنفيذه عمليات تعذيب من أجل المتعة، وفي أغلب الأوقات بعد منتصف الليل، إلا أن هذه المرة جاء ليأخذ على عاتقه معاقبة كامل السجن، على اتخاذهم رغبة في الصوم، معتبراً أن ذلك تحدٍّ له شخصياً، وأنه يريد أن يعرف مَن يصمد للمغرب، موجهاً أمراً للعساكر بسحب الفراش أو أي امتياز حصل عليه السجين قبل اليوم ومعاملة جميع من صام بنفس الطريقة، وهي تعصيب الأعين، وربط الأيدي، وشبح طوال اليوم حتى أذان المغرب، ومع ذلك لم ينتهِ حظ أسيرنا، فقد همس في أذنه أحد السجانين قائلاً: لا تخف فالجميع مشغول بعد المغادرة اجلس لن يكون معك أحد في الزنزانة.
كم كان يوم أسيرنا طويلاً، ورغم كونه معصب العينين مربوط اليدين، فإنه كان يعتبر معرفته بعدم وجود شخص يراقبه داخل زنزانة شيئاً يستحق الفرح، فكان يجلس ويقف ويتحرك في مكانه مما يجعله أكثر راحة من باقي الأيام، ولم يخفِ مقدار رضاه عن عدم حضور السجان لإخراجه لصلاة الظهيرة، وقد شاركه بذلك جميع المساجين في الانفرادي، وانتظروا قرب أذان العصر حتى بدأ بطلب من السجان أن يسمح لهم بالصلاة.
لم يخفِ "أ.س" أنهم تعمدوا ذلك كي لا يتذكرهم بعض المحققين، ويقوم بإخراج أحد إلى خارج الزنازين، وزاد حظ أسيرنا بعد صلاة الظهر، قال له السجان: سأعود بعد صلاة العصر كي أعيدك إلى ما كنت عليه، وذهب السجان ولم يعد، واقترب المغرب، بهدوء ورضا عما صار إليه اليوم، فقد تبين فيما بعد أن معظم المحققين غير موجودين، وكذلك العساكر، وهم مشغولون مع الأهل والأقارب في تحضيرات العيد، وحتى الطباخ الخاص بالسجن كان مغادراً، حاله حال الجميع، ولم يعد لنا طعام الإفطار، مما تسبب في حصولنا على وجبة الإفطار بعد ثلاث ساعات تقريباً من أذان المغرب، وتوج ذلك اليوم بحصول أسيرنا على فراش للنوم وحرام ومخدة.
نام "أ.س" نوماً عميقاً وحتى عندما سمع صوت الأقدام تقترب وفتح الأبواب في صباح اليوم الثاني كان مرتاح النفس وغير متوتر، ونهض من فراشه بهدوء ليجد المحقق "م.ب" يقف في زنزانة، ويبتسم قائلاً له: لم أستطِع أن أزور أمي وأبي وأهنئهما بالعيد، وأجلس مع أطفالي وزوجتي، قبل أن أعيد عليكم، فقطعت إجازتي وجئت خصيصاً من أجلكم، واتبع كلامه بضرب أسيرنا، وأغلق باب الزنزانة مسرعاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.