عندما تبحث أمة ما عن الحل، فهذا يعني أن هناك مشكلة، وحتى يتسنى إيجاد حلول مناسبة لها، يجب أن تحدد أولاً ماهية الإشكال وطبيعته، ويبرز الفارق بين العرض والمرض.
وقد جدت الخطوب على الحضارة الإسلامية بعد أن ظلت تقود قاطرة البشرية ألف عامٍ أو يزيد، ودب الوهن في أوصالها، حتى تقلص إنتاجها القيمي والحضاري، وما إن تفشت أعراض المرض، وطفحت آثاره حتى سعى الأئمة المصلحون في محاولة تشخيصه، والتصدي له ساعين لإنقاذ الأمة مما دهاها فقوض بنيانها حتى كاد يمحو آثاره.
بَيد أن كلمة هؤلاء المخلصين لم تتفق على تحديد المشكلة وتشخيص الداء، فتعددت أطروحاتهم الفكرية، ومشاريعهم الإصلاحية، بعضها في الدعوة وتجديد الإسلام، وبعضها في الإصلاح السياسي، وبعضها زاوج بين المدرستين.. لكن مشروعاً حضارياً فريداً برز في منتصف القرن العشرين، على يد عملاق الفكر الإسلامي مالك بن نبي.
مالك "المجهول في قومه" الذي يعد امتداداً طبيعياً لابن خلدون، بحث في الظاهرة الحضارية وشغل بها عمره، وأحسن قراءة سنن التاريخ حتى تشكل في فكرة ملامح مشروع حضاري فريد، حدّد فيه أبعاد المشكلة، وأبرز العناصر الأساسية في الإصلاح، وترك لنا منهجاً واضحاً في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ.
لقد استطاع مالك أن يقدم جواباً شافياً على سؤال النهضة الذى شغل فكر الأمة سنين طويلة: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
يجيب مالك: بأن كل حضارة إنسانية عرفتها البشرية مرت بثلاثة أطوار: طور الميلاد، وطور الانتشار والتمدد، وطور الأفول.. وعندما ينحدر منحنى الحضارة في مجتمع ما وتبدأ شمسها بالأفول تتفشى أعراض هذا المرض، فمشكلتنا إذاً هي الانحطاط الحضاري.. وكل ما تشهده مجتمعاتنا من فقر، وجهل، واستبداد، وغيره هي عوارض المرض وليست المرض ذاته، وبالتالي فحل المشكلة يكمن في الأخذ بشروط النهضة، وإعادة بناء حضارة إنسانية من جديد.
إن للتاريخ دورة وتسلسل، وحتى تأخذ أمة بأسباب النهضة عليها أولاً أن تحدد مكانها من دورة التاريخ، وتقوم بحل مشكلات الحضارة، فمشكلة الانحطاط تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت، ولا بد لهذه المحاور من إطار جامع تنصهر فيه، هذا الإطار الذي يسميه مالك "المركب الحضاري" هو الفكرة الدينية، التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ، وحتى تقوم حضارة يجب أن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها.
إن جوهر الإصلاح هو تغيير نفوس الشعوب، وتخليصها من موروث الاستعباد والقابلية له، وإعادة إحيائها من جديد، حتى تتفاعل مع معطيات الحضارة الأساسية، وأي تغيير سياسي لا يقوم على أساس تغيير الأفراد والارتقاء بهم هو تغيير غير رشيد.
"إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجرداً، وإنها لشرعة السماء: غير نفسك، تغير التاريخ"!
مالك الذي عالج قضية الحضارة -كما لم يسبقه إليها أحدُ من قبل- وكان ضحية فكره التقدمي، قال لزوجته وهو على فراش الموت إنه سيعود بعد خمسة وعشرين وعاماً، أي أن مشروعه سيبرز للوجود بعد جيل كامل من وفاته، غير أنه -وبكل أسف- ظل حبيس أرفف المكتبات.
إن مشروع مالك بن نبي وتراثه الفكري حقيق بأن تلتفت أنظار الأمة إليه، وأن تطرحه للبحث والدراسة، وأن تتمثله سلوكاً فعلياً في واقع نهضتها إن أرادت أن تخلع ربقة الانحطاط من عنقها، فلئن كانت نهضة أو مشروع حضارةٍ فلا يفتى ومالك في المدينة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.