في مقولة شهيرة له، يقول صاحب كتاب "محنة ثقافة مزورة" الصادق النيهوم: "لا تخافوا على سلامة دينكم من تماثيل حجرية تزينون بها بيوتكم، بل خافوا من الأصنام البشرية التي تحتل رؤوسكم وتسجد لها عقولكم"، هذه العبارة القوية تستحق منا الوقوف عندها وقتاً طويلاً؛ لأن أصنامنا البشرية في تكاثر مستمر.
لقد حان الوقت لكي يفهم أغلب أئمتنا، ودعاتنا، ورجال ديننا وأهلنا، وكل من له دور في التنشئة الدينية لأطفالنا، ويمارس عملية تمرير الأفكار والمفاهيم والمعتقدات والممارسات الدينية، بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تكن غايته يوماً مرتبطة بشكل جوهري وأساسي ونهائي بـ"تحطيم الأصنام الحجرية" التي كانت تحيط بمكة، فهذا أبداً لم يكن كل همّه.
إن عملية تطهير مكة من الأوثان سبقتها بسنوات عديدة عمليات تطهير للذهنيات والعقليات القرشية، من الترسبات المتحجرة، المتراكمة عبر مئات وآلاف السنين، والتي اجترتها العادات والتقاليد والأعراف معها، لكنها لم تعد متلائمة مع العصر، ولا تخضع أسسها لشروط الإنسانية، جاء ببساطة ليكسر الجليد الموجود في دواخل النفوس.
على الإمام بشكل خاص، باعتباره الممثل الوحيد والأوحد للفكر المحمدي أثناء إقامة خطبة الجمعة، وعلينا بشكل عام كمسلمين، باعتبارنا ممثلين لهذا الفكر أمام العالم، أن نعيد قراءة السيرة، قراءة جديدة، تعيد لكل معنى معناه، ولكل مفهوم دلالته الحقيقية، لا بد لنا أن نستبدل القراءة التقليدية التي عكفنا عليها منذ زمن، بقراءة جديدة منفتحة على معاني إنسانية عميقة، فكيف يعقل أن نقزم كل الأدوار والغايات والآمال المحمدية التحريرية الرافضة للجمود ولمَ هو موجود، في كل ما هو ثانوي تابع وشكلي؟ كيف يعقل أن نتناسى دوره في تحطيم الأصنام البشرية ونعوضه بتحطيم للأصنام الحجرية؟ ونقول بكل سفاهة ووقاحة بأن الإسلام وجد نصره ووصل إلى مبتغاه يوم تحطيم بعض من الحجارة.
فلنعد بعقول قاطعة مع الحس المشترك والأحكام القبلية، لنقلب في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- سنجد أن همه لم يكن يوماً يبتدئ وينتهي في أن يلبس عليّ -رضي الله الله عنه- ثوباً أبيض ليخالف الأحمر والأسود عند أبي جهل، ولم يقَس يوماً إيمان هذا الصحابي أو ذاك بطول لحية كل منهما.
لا بد أن نربط الرسالة المحمدية بالسياق التاريخي الذي اخترقته، وأن نعود بأذهاننا إلى وحشية ذلك المكان، وندقق في ضبابية تلك القيود الجاحدة التي كانت تسيطر عليه، قيود القهر والذل والربا والبغاء. يستحيل أن نقر، سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين، بعظمة رسالته ما لم نسافر بأرواحنا إلا حيث لا صوت إلا صوت "من يعطي أكثر يسمع أكثر"، ولا صورة إلا صورة "تمايلي يا حسناء فأهلك عليهم دين"، فلنفهم القصة بصورتها الحقيقية، وليس في صورتها التقزيمية، التي تجعل هويتها هوية شكلية محضة.
إن عودتنا هذه إلى تراثنا، وإعادة قراءته، سارت عودة لا مفر منها في ظل تصاعد الفكر التطرفي، وتزايد القراءات الرجعية لمضامين الخطاب الديني، والتي أصبح من السهل استهلاكها من طرف الشباب والأطفال في ظل انتشار لا محدود لوسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، فبين عشية وضحاها يستطيع هذا الفقيه المحدود الرؤية أو ذاك، أن ينقل شاباً في مقتبل عمره وزهرة شبابه إلى قنبلة فتاكة، مليئة بكلمات فظة وخطيرة، من مثل: "كفره جمهور العلماء"، "فاسق"، "زنديق"، "زانية"، متناسياً دون قصد في كثير من الأحيان -لأنه بدوره تلقى هذه القراءة التقزيمية للرسالة المحمدية عن سلفه- أن يصف الإخاء الإنساني الذي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممتلئاً به، وكيف أعاد تنظيم الأنساق الثقافية والبنيات الاجتماعية، وفق رأي الجميع وليس وفق رأي طبقة معينة تمتلك الرأسمال.
إنها الرسالة التي وضعت نصب عينيها بلالاً وليس أبا سفيان، ووضعت في مخططها الأساسي تحرير الموءودة من مصير حتمي لم تكن أبداً مسؤولة عنه، وليس إثبات أن صوت المرأة عورة.
أما الآخر اليهودي أو المسيحي، فله منها ألف احترام إنساني وسلام أخوي، فلم نشهد في القرآن آية واحدة صريحة تدعونا إلى النظر إليه باعتباره أقل قيمة من المسلم، بل كان القرآن في مواطن عديدة يدعو إلى محاولة إيجاد نقاط تشارك بين هذه الرسائل، إلى إيجاد نقاط للتحاور والتواصل، وخير دليل على ذلك الآية الكريمة الصريحة التي تقول: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (سورة آل عمران: الآية 64)، فالآية تدعو إلى إحياء كلمة "سواء" وليس إلى القطع، وأسلوب الآية في طرح هذا الحوار كان أسلوباً رحيماً متواضعاً، بعيداً عن أي تحقير.
وحتى في حالة رفض هذه الكلمة "السواء"، وهذا الاقتراح، فإن الآية لا تدعو إلى القطع معهم أو محاربتهم أو تجريحهم، بل دعت المسلمين إلى اتباع دينهم وأن يشهدوهم على ذلك فقط.
لم تقل فإن تولوا فعليكم بالسيف، فأين نحن من تحطيم صنم التكبر والتجبر هذا؟ ها نحن نلعن جميع اليهود دون استثناء صباح مساء، ولا يسمح العرف الاجتماعي المغربي بقول كلمة "يهودي" إلا متبوعة بكلمة "حشاك"، التي تضعه بشكل مباشر في سلة واحدة مع البهائم.
إن قراءة كهذه كفيلة بأن تجعلنا نستوعب بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء ليقول "لا" في وجه الظلم والذل والقهر والحرمان، بشتى أنواعه، جاء ليقول "لا" في وجه كل متكبر، كل رياء، كل جبار، كل متخلف، كل جاهل، ببساطة جاء ليقولها في وجه كل صنم بشري، وكل قراءة عاجزة عن فهم هذا العمق ل ابد من تجاوزها.
إننا ونحن نقلب هذه المشاهد واحداً تلو الآخر سنكتشف بأن عملية تحطيم الأصنام البشرية كانت أهم مليون مرة من تحطيم الأصنام الوثنية، وهذا واضح في كثير من التغيرات التي وضعها عليه الصلاة والسلام في آليات التنظيم والتدبير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع "المديني".
فبدل مجلس مكة الذي كان يحضره الشيوخ ورؤساء بطون مكة؛ ليقرروا مصير مجتمع بأكمله، أسس الرسول -صلى الله عليه وسلم- مفهوم "الجامع" وهو أعمق بكثير من المسجد الذي يحيل فقط إلى مكان للصلاة، والذي سبق أن وجد عند اليهود والنصارى.
بينما فكرة "الجامع" التي اختفت بشكل كلي من مجتمعنا، كانت هي الجديد؛ لأنها حطمت فكرة التحكم الخاص، أي فئة معينة صغيرة تمتلك الرأسمال الاجتماعي والمالي والرمزي، تتحكم في مصير واختيارات ومعتقدات الفئات الأخرى.
حطمت الأصنام البشرية بكل ما للكلمة من معنى؛ لأنها أتاحت للعبيد وللفقراء، بأن يشاركوا في النقاش والحوار ويطرحوا السؤال والاقتراحات أمام الجميع، ومع الأسياد والأغنياء، ففي الجامع الكل متساوٍ والكل يشارك ويتعاون، الكل يصبح مواطناً.
وفي هذا يقول الصادق النيهوم أيضاً: "كلمة الجامع في الإسلام صيغة أخرى من صيغ السلطة الجماعية، إنه مقر مفتوح في كل محلة، يرتاده الناس خمس مرات كل يوم، لهم حق الاجتماع فيه، حتى خلال ساعات حظر التجول، تحت سقفه مكفولة حرية القول، وحرية العقيدة، وسلطة الأغلبية" من كتاب الإسلام في الأسر ص 21.
تحطيم الأصنام البشرية واضح أيضاً في عملية إعادة إرجاع مفهوم الدين إلى عمقه الحقيقي، فالدين ليس في جيوب أصحاب مفاتيح مكة، ولا في عمامات رجال الدين والكهنة، الدين لله وحده، لا وساطة بينك وبين الله، لست في حاجة إلى قربان ولا إلى كهان، أنت في حاجة إلى إيمان، إيمان صادق وفقط؛ لكي تصل إلى الله.
فترتب عن هذا بأن نزع الدين من البشر وأعيد إلى الذات الإلهية، ما يجعل الإنسان يتجاوز رياء الناس في العبادات والممارسات الدينية.
لكن للأسف هذه المعاني الجميلة كلها غابت عن فهم أغلبنا للدين، فأشكالنا تحكي تديناً، وقلوبنا بعيدة كل البعد عن الدين. امتلأت صفحاتنا الاجتماعية بصورنا أمام مكة، وتدوينات: "ختمة القرآن ولله الحمد"، وكتابات حول أجر الزكاة والصدقة، وامتلأت سيارات الأجرة بالأدعية، وغيرها الكثير من المظاهر والصور، التي لو بحث أصحابها عن العمق فيها ما كانت نسب الجهل والتخلف والفساد والرشوة والظلم مرتفعة في بلداننا.
هذه الصور وغيرها الكثير، موجودة بين السطور، لكننا للأسف لم نتعلمها، ولا أدري ما السبب في ذلك، هل هو صعب إلى هذه الدرجة أن نعيد بناء توعية دينية عميقة تحمل الأبعاد الحقيقية للأفعال والأقوال في السيرة النبوية الشريفة؟ إن كان هذا صعباً فهنيئاً لنا بأجيال جديدة ترى كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين جزءاً من الدين، وتقزم تدينها في حضور صلاة الجمعة ولو لم تفقه من الخطبة حرفاً، وتقسم على أن من لا تضع حجاباً في النار، أما النمام فتحميه قاعدة إن الله غفور رحيم.
كفى انغلاقاً، لو أراد الله لهذا الدين قراءة واحدة ونهائية ما جعله صالحاً لكل زمان ومكان، ولو أراده الله ديناً منغلقاً، ما جعله للعالمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.