منذ اللحظة التي اقتحم فيها مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مدينة الفلوجة واستولوا على سد المدينة في بداية عام 2014، كان محمد أمين يخشى من أن يحدث الأسوأ.
أدرك أمين، باعتباره مزارعاً يعتمد اعتماداً كبيراً على شبكة من القنوات العتيقة التي تتدفق شرقاً من نهر الفرات، مدى السهولة التي قد يدمر بها مقاتلو التنظيم محاصيله. وهكذا، أغلق "داعش" سد الفلوجة بقوة في أغسطس/آب، مما أدى إلى غمر جزء كبير من الحزام الزراعي بالفيضانات في بغداد ووقف تقدم الجيش العراقي، وكان أمين في حالة استعداد أفضل من معظم الناس. وقال: "لقد حفظت البذور والأسمدة وكل شيء في مكان مرتفع عن الأرض، فقد كان لدي شعور باحتمال حدوث هذا".
لكن ما لم يتوقعه أمين ولا جيرانه ولا جميع المزارعين الذين يعملون في الأرض بالقرب من سجن أبو غريب الأميركي السابق سيئ السمعة، هو الأضرار البيئية طويلة الأجل التي قد يُلحِقها "داعش بالمنطقة، حتى بعد هزيمته. فبعد طرد مقاتلي التنظيم من الفلوجة في مايو/أيار 2016، فجَّروا ستاً من البوابات العشر للسد، مما أجبر المسؤولين على قطع التدفق إلى القنوات.
وبعد تسعة أشهر، لا تزال الممرات المائية الشرقية في محافظة الأنبار جافة تماماً بدون مياه. وقال أمين: "هناك مياه قذرة، ومياه منخفضة، وقنوات سيئة، كنا نظن أننا رأينا كل شيء سيئ، أما الآن فالوضع أكثر سوءاً، فبعد رحيلهم، ليس هناك ماء على الإطلاق"، وفقاً لتقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية.
إن الكثير من التقارير الواردة بشأن "داعش" تركز بشكل واضح على الخسائر البشرية للإرهاب. غير أن النهرين الكبيرين في العراق أصيبا أيضاً، ومن المرجَّح أن تستمر العواقب إلى ما بعد زوال "داعش" في نهاية المطاف.
لقد تعرض نهرا دجلة والفرات، اللذان يواجهان بالفعل العديد من المشاكل، للتلوث بسبب الجثث ونفايات الذخائر، إلى جانب البنية التحتية المتهالكة على مدى السنوات الثلاث الماضية. وبالنسبة للبلد الذي يعتمد على هذه الممرات المائية الشهيرة لري أكثر من 80 في المئة من الزراعة، دفعت المصاعب الإضافية المزارعين العراقيين إلى حافة الهاوية. وقال حسن الجنابي وزير الموارد المائية العراقي: "الشعب نجا، لكن بدون ماء وما زال يعاني من كل هذه الأضرار، لقد استُخدِمَت المياه كسلاح إلى أقصى مدى مطلق".
بدأ الدمار تقريباً بعد أن استولى تنظيم "داعش" على أجزاء من وديان الأنهار في صيف عام 2014. وظلت أعمال الري الخاضعة للحصار في الفلوجة والرمادي وفي المنبع بسوريا، قام علماء المياه بغمر المياه ثم قطعوها عن الأراضي الزراعية الواقعة على بعد 250 ميلاً خلف مناطق سيطرة "داعش".
وفي الفلوجة، هناك مزاعم بأن مسلحاً واحداً كان يعمل كمهندس مياه في السودان دبَّر المؤامرة التي أغرقت 200 كيلومتر مربع من الحقول بين الفرات وبغداد وحدها. وعندما لم يتمكنوا من تدمير محاصيل تساوي مئات الملايين من الدولارات، استخدم مقاتلو "داعش" أيضاً دجلة كمقبرة جماعية.
فقد ألقى "داعش" ما لا يقل عن 100 من طلاب الجيش العراقي البالغ عددهم 1700 طالب أو نحو ذلك، الذين ذُبِحوا في قاعدة سبايكر الجوية في حزيران/يونيو 2014، في المياه الضحلة للنهر. وعلى مدار الشهور التالية، اشتكى الصيادون في شمال سامراء من العثور على جثث عديدة في شباكهم.
وازداد الضرر سوءاً بمرور الوقت. أثناء تقهقر "داعش" قريةً قرية، تحولت قواته إلى تكتيك الأرض المحروقة، حيث قام المقاتلون المتراجعون بتفجير الجسور وغلق القنوات وزرع الألغام بين أنقاض محطات الضخ. وقاموا بتفجير ثقوب كبيرة في قناة ري خرماتو من ديبيس إلى تازة، مما ساهم في انخفاض 80 في المائة من إنتاج القمح في محافظة كركوك منذ عام 2014.
وفي الآونة الأخيرة، عندما حاصرت قوات التحالف آخر معاقل "داعش" في الموصل، قام الجهاديون بإشعال النار في العشرات من آبار النفط في القيارة، إلى الجنوب من المدينة. وتشير اللقطات الفضائية إلى أن بعض هذه الآبار قد بدأت في التدفق تجاه رافدٍ لنهر دجلة.
مستقبل كئيب
وقال مسؤولون عراقيون أنه إذا كانت الأضرار الناجمة عن الحرب تتعلق بالمياه فقط، فإن الوضع قد يكون قابلاً للإنقاذ. لكن ظهور "داعش" كان بمثابة إضافة، للأسف، إلى مجموعة من المشاكل الموجودة مسبقاً.
فلقد قامت تركيا وإيران ببناء عشرات السدود في أحواض دجلة والفرات على مدى العقود القليلة الماضية. وأثناء احتلال بغداد، يبدو أن الدولتين بدأتا في احتجاز المزيد من المياه منذ عام 2014، إذ تسمح أنقرة بمرور أقل من ربع التدفق المعتاد لنهر الفرات عبر حدودها، حسب تقرير لعلماء حفظ الطبيعة من منظمة "طبيعة العراق"، وهي منظمة غير حكومية بيئية محلية.
يُذكَر أن إيران قطعت تقريباً كل إمدادات نهر كارون الذي كان يصب خمسة مليارات متر مكعب سنوياً فى شط العرب الذي يتكوَّن من التقاء نهري دجلة والفرات فى جنوبي العراق. مع هذا التدفق الضعيف في الروافد السفلى للنهرين، يندفع منسوب الخليج الفارسي في الصعود إلى أعلى النهر عبر مسافة تصل إلى 70 ميلاً.
وقال الجنابي: "حتى أواخر السبعينيات، كانت جميع مياه النهر تأتي إلى العراق. لكن الأمور تغيرت، وسيكون من الصعب جداً استعادة كل شيء مرة أخرى". وتراجعت حصة وزارة الموارد المائية من صندوق الاستثمار الرأسمالي من 1.7 مليار دولار في عام 2013 إلى 90 مليون دولار في العام الماضي، مما يجعلها غير قادرة على تلبية العديد من مسؤوليات صيانة البنية التحتية.
ولكن رغم المخاوف بشأن مستقبل الأنهار، ينمو العراق أكثر اعتماداً عليها في كل عام. فلقد أدى عدم الانتظام في سقوط الأمطار بصورة متزايدة في كردستان ومقاطعة نينوى، وهي الأجزاء الوحيدة من البلاد التي كانت في السابق قادرة على الحصول على الزراعة البعلية، العديد من المزارعين هناك للاستفادة من شبكات الري المحلية، مما زاد من العبء الواقع على الأنهار.
وقال وزير الزراعة في المنطقة الكردية إن أقل من 60 في المائة من المزارعين في شمالي العراق يحصلون على كمية كافية من المياه. ويعتقد الوزير أن هذا الرقم لن يزيد إلا عندما يسبب التغير المناخي أضراراً.
وقد حاول بعض المزارعين التكيف مع الظروف القاتمة من خلال تمديد القماش المشمع على المساحات القريبة من قناة الري للحد من التبخر، أو عن طريق حفر آبار خاصة بهم (غير قانونية)، على الرغم من أن مخزون المياه الجوفية في العراق يستغل أيضاً إلى حد كبير. لكن بالنسبة لكثير من الذين يعتمدون على الأنهار لكسب عيشهم، تسبب كمية ونوعية المياه المأساوية في انحدارهم لفقر أعمق.
وفي أهوار جنوب العراق، حيث تبلغ مستويات المياه نحو نصف متوسط مستوياتها التاريخية، انخفضت الأجور بشكل حاد. ويكافح مربو الجاموس لتغطية نفقاتهم حيث إن المياه المالحة تقلص إنتاج حليب حيواناتهم.
الجدير بالذكر أن الصيادين قد تعرضوا لانخفاض نسبة الصيد لديهم بمعدل تجاوز 60 في المائة بين أعوام 1981 و2001 (آخر البيانات المسجلة). وبالنسبة لكثير من السكان، الذين أجبروا جميعاً على الخروج عندما قام الرئيس العراقي صدام حسين بتجفيف الأهوار في التسعينيات لكن الأمر عاد إلى طبيعته بعد ذلك عام 2003، فإن الحالة الصحية السيئة للمجاري المائية جعلت الحياة مستحيلة بالنسبة لهم. وقال إسماعيل خالد داود، صاحب جاموس في الأهوار الوسطى "في هذه الأيام، هناك مياه سيئة فقط أو مياه سيئة للغاية، وليس من المستغرب أن العديد من الناس يرحلون مرة أخرى".
لقد جرب المسؤولون في بغداد بعض الطرق لمساعدة المزارعين. ففي أقصى جنوب العراق، قاموا بتوزيع مبالغ نقدية لمساعدة رعاة الغنم والماشية على بناء طاسات خرسانية للمياه العذبة لحيواناتهم. لكن إعادة بناء البنية التحتية للمياه المدمرة والتخفيف من آثار تغير المناخ سيتكلف مليارات الدولارات التي لا تملكها السلطات المعتمدة على النفط.
وقد يأتي المانحون الأجانب في نهاية المطاف إلى مساعدتهم عندما ينتهي القتال. لكن منظمات المساعدات الدولية تكافح بالفعل من أجل الحصول على أموال لدعم عدة ملايين من النازحين العراقيين. وفي الوقت نفسه، تقترب تركيا من الانتهاء من سد إليسو الكبير، الذي يهدد بخفض تدفق دجلة بشكل كبير حتى انتهاء فترة ملء الخزان. ورغم الضغط المحموم من بغداد، فمن المقرر أن يبدأ السد عمله في وقت لاحق من هذا العام.
طوال فترة طويلة من تاريخ العراق، كانت ثرواته مرتبطة بشكل وثيق بنهري دجلة والفرات. فمن خلال النهرين، استطاع السومريون القدماء بناء واحدة من الحضارات الأولى. وبما أن البلد ينحدر من أزمة إلى أخرى، يبدو أن الأنهار تتقاسم بشكل مأساوي هذه الصراعات.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة Foreign Affairs الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.