عشق خاص يخصّني وحدي، لا أعلم سر هذا الارتباط العجيب.. جلست في المقهى منتظراً سيدتي المُرة، أسرع النادل بتقديم طلبي للقهوجي حتى يتسنى لي شم وارتشاف محبوبتي، أن تكون ذواقاً وعاشقاً يعني أن تشرب القهوة، وأن تشرب القهوة يعني أن تكون ذواقاً وعاشقاً، ومن ثم فإن محاولة الإعجاب بالقهوة أمر مستحيل؛ لأننا منذ البداية هائمون فيها منتشون بها غارقون حتى آذاننا في هواها، من الجميل أن نحبها ونغرق في مياهها، فالقهوة مدرسة تعطينا دروساً وعِبَراً حتى نتعلم منها، فارتشاف الأمل المغامرة، والتجربة يبعدنا عن اليأس والفشل والكآبة، والقهوة حياة جميلة تستحق أن نعيشها كل يوم بحلم جديد.
القهوة هبة إلهية، طعم غامض يتوجه في جميع الاتجاهات، يخنق اللسان، ويقهر القلب، ويدمر العقل، المختصون في شؤون القهوة يقسمونها إلى مراتب تبدأ بمتعة النظر، ومرارة الذوق ثم حلاوة الطعم فبهجة القلب وانتشاء العقل.
الملهمة الثائرة بيتها مفتوح على مصراعَيه لكل باحث عن المعرفة، فالواقف في باب المقهى يجد نفسه في حضن الأدب والتاريخ، كيف لا وهي روح الفكر وعبق التاريخ؟!
لكل مقهى نفَس مختلف وحياة مختلفة مليئة بالأفكار والمواقف، كما أن الشخصيات التي كانت تجلس فيه من كبار المفكرين والفنانين طبعت على مراحل مهمة دفعت العالم للتحول، فمنزل السيدة قهوة يزخر بدلالات فكرية تاريخية كبيرة، كنشأة الحركة الوجودية بفضل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار. وتأليف مجموعة من الكتب، والروايات والأشعار مثل "لو بون ميرابو" لغيوم أبولينير أو "فاوست" ليوهان فولفغانغ فون غوته، كما اختارها بيكاسو منزلاً له، دون أن ننسى الكتاب العرب مثل طه حسين وتوفيق الحكيم الذين تأثروا بها وجسدوها في كتاباتهم وأشعارهم كرمز من رموز الكرم وحسن الضيافة.
إن القهوة تمنح الإنسان قدرات جديدة لتذوق العالم، هذا المنتوج المنتفخ بالحوية يحتوي على كمية كبيرة من الطاقة المحفزة القادرة على خلق الفوضى بالحواس وضخ الحماس، والفرح والنشوة مما يعطي الجسم قوة خارقة تؤدي مباشرة إلى اكتشاف وابتكار إمكانيات جديدة وغير متوقعة.
مشروب شعبي ساخن معدل للمزاج له مفعول خاص يجعلك قادراً على أن تتذوق ما لم تستطِع أن تتذوقه في حياتك، وأن ترى من الألوان والأشكال ما لم تشاهده منذ ولادتك، وتستنشق من الروائح ما لم يحمل إليك، وتسمع من النغمات والأصوات ما لم تسمعه أبداً، وأن تزور من الأماكن ما لم تذهب إليه من قبل، فعلاً مفتاح من المفاتيح الثلاثة للسعادة، كما قال أنطوني ترولوب: "ما الذي على هذه الأرض يمكن أن يكون أكثر ترفاً من أريكة وكتاب وكوب من القهوة!".
كل فكر في العالم كيفما كان قديماً أو حديثاً في حاجة بالغة للقهوة، بفضل رشفاتها يتم تأكيد المعنى واليقين به أو زلزلة الفكرة ونقضها.
إذا جلست في المقهى فلا تحاول أن تتجنب مزيج الروائح المتعددة المركزة للقهوة أو تتهرب من تلذذها، فقد يطاردك صداع الرأس بعدم فهمك للقهوة، ووجع القلب لرفضك حبها، ومرارة الذوق لامتناعك عن شربها.
فضلاً منك وليس أمراً اشرب القهوة قبل أن تشرق شمس الصباح.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.