استيقظ كعادته دون منبّه، خيوط الشمس لم تتسلل بعد، يصلي متخشعاً في ركعاته البريئة ثم يتناول فطوره ببطء أقل، فالوقت سيف لا يرحم حتى لمعانه يحجب الرؤية، ارتدى بذلته التي توحي بعمله ومن ثمة يخرج من باب منزله النظيف؛ ليبدأ موسم النظافة اليومي.
وقف قرب مكنسته في الشارع الذي جاء في دوره اليوم بالتقسيم، كان مليئاً بالأوراق المتناثرة على طوله تغطيه وكأنها سجادة بيضاء، بقايا أكل بكل أنواعها، زجاج مكسر كأن الندى الصباحي تساقط زجاجاً بدل قطرات ماء وأشياء أخرى لا يمكن تمييز ماهيتها.
تعجب لهذه الكمية الهائلة من المخلفات ووجودها بأحد الشوارع الرئيسية للمدينة كذلك لأنه لا بد أن أحد زملائه كان دوره في تنقية هذا المكان البارحة، لوحة تشكيلية حبرها تنكر في عصارة النفايات تجسد مقولة جلال الدين الرومي: "كل تناقض إنما هو انسجام غير مفهوم"، لكن ليس لتعجبه حيلة!
كل ما عليه هو أن يزيل هذه المخلفات الإنسانية – إن صحَّ القول – عن الطريق فقد يصاب أحد المارة أثر ذلك الزجاج، وقد تتسرب رائحة العفن للبيوت المجاورة، فالروائح الكريهة كعادتها سريعة الانتشار. ليس علاوة على كونها مهنته وعليه أن يضمن لقمة خبز له ولعائلته التي هو معيلها الوحيد؛ لذلك بدأ في تحدي قساوة المكنسة؛ قطعة خشب باردة بدلاً من مكتب مرتب نظيف ودافئ.
بدا منغمراً في عمله حتى إنه لم يكن سيلاحظ أن الشمس قد أخذت في أن تصبح حارقة، لولا العرق الذي بدأ يتصبب على وجهه، فتذكر ابنه الذي لم يكن يروقه تقبيل خد أبيه المتعرق؛ لأنه كما علمه ليس من اللائق مسح اليد بالفم.
ولهذا السبب كان يقول له ابنه إنه لا يتمنى أن يصبح عامل نظافة حين يكبر كي لا يغتاظ منه أبناؤه هو الآخر.
قول ابنه ذاك كان بريئاً من أي استهزاء فكيف لفلذة كبده جزء منه أن يستهزئ أو يستحي من أبيه، ولكن كيف لإخوانه وأخواته في الوطنية والوطن أن يستهزئوا به؟
عندما كان صغيراً كان بدوره يحلم بأن يصبح طبيباً نبيلاً في عمله أو مهندساً متفانياً في تخطيطاته لكن باءت الأقدار وشاءت الظروف أن امتهن عامل نظافة ليس لكون الطب أو الهندسة مستحيلين فقط لكونهما لم يخلقا له.
خلق وكتب له أن يمتهن مهنة شريفة تتلخص في التدبير والتخلص من أعظم معضلات الوجود والنشاط الإنساني؛ النفايات، فلا أظن أن هناك ما سيكون أخطر من لو توقف عمال النظافة عن العمل، ستحل بنا أكبر كارثة، خاصة كوننا شعوباً لم نصل بعد إلى درجة الوعي التي تمكننا من معرفة كيفية التعامل مع مخلفاتنا، فجلنا لا يعرف عن النفايات أي شيء سوى رميها!
وللأسف ففي اليابان حيث الشعوب تعرف وتطبق تقنيات العزل وإعادة الهيكلة وتفقه جيداً كيفية التعامل مع القمامة حتى يتم تسهيل المأمورية على عامل النظافة والبيئة، يطلقون على عامل النظافة -الذي هو لقب عيب عندهم- مهندس الصحة والنظافة، فهم ينظرون إليه كشخص مسؤول عن صحة ونظافة المدينة خاصة ومستقبل البيئة عامة، يتم تكوينهم على أساس مهنة معترف بها ومقننة بكل حيثياتها، كما يجرون مقابلات كتابية وشفوية قبل الالتحاق بالعمل، براتب مهم زيادة على حصولهم على شهادات تمنحهم صلاحية العمل والجدارة فيه، فقد نجد عامل النظافة في اليابان يمتلك سيارة فاخرة، أو منزلاً محترماً ويحظى بحياة مستقرة ووقورة عكس الحال في المجتمع العربي المسلم؛ حيث من المستحيلات كفوز السلحفاة في السباق وتسلق النملة الجبل في قصة ما قبل النوم أن يحظى عامل النظافة بأجرة تلبي كل حاجياته الأساسية حتى!
ورغم ذلك نحن بدورنا كمواطنين وكبشر وكمسلمين نجازيهم بنظرة دونية وبتعامل يغزوه الاستهزاء والاحتقار حتى النخاع، فكيف لنا أن نحترم ونقدر شخصاً يعرض نفسه لشتى الأخطار المتعلقة بالأمراض والميكروبات لينظف فضلاتنا دون أدنى شروط السلامة أو حتى المراقبة الطبية؟
تغريني أسطري لأذكر ما حدث يومها، كنت جالسة في أدراج الجامعة فإذا بضجة خانت الهدوء من حولي فعمت المكان، شدتني لأستفسر عما يجري؟ فعرفت أنها إحدى الطالبات تتجادل مع إحدى عاملات النظافة لأنها طلبت منها بأن ترمي الأزبال -التي رمتها على الأرضية- في القمامة، تتجادل معها كونها طالبتها بسلوك حضاري وإنساني، طالبتها بأن تحترم نفسها وإنسانيتها وبيئتها، كل هذا وهي طالبة علم.
وما أبدع العلم!
مدرس، طبيب، مهندس، تاجر، جزار، إسكافي، عامل نظافة، صاحب ورشة، طالب معاش، فلاح، خماس.. لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، لا فرق بين الناس سواء على مستوى أصولهم، لغتهم، لونهم، جنسهم، أو حتى مهنتهم إلا بالتقوى، إلا بمدى تفانيه ونزاهته وشفافيته ومدى استحضاره وحرصه على كل ما يرضي الله فيها، كل مهنة شريفة مهما كان أجرها فهي موضع افتخار وتقدير ولنا أن نحترمها.
الله -سبحانه وتعالى- فرق مصدر الرزق لكل الناس، وإلا لو كان كل الناس أطباء ممن سنبتاع حاجياتنا ومن سيعلم أجيالنا القادمة ومن سيخطط لمنازلنا ومن ومن ومن؟.. لعلها حكمة إلهية كونية عظيمة فلنحترمها ولنحترم أنفسنا.
كذلك هو عامل النظافة، اختار المكنسة والشارع، الغبار وكل أنواع الروائح، اختار عرق الحلال البسيط بدل راحة الحرام التارف، فكيف لنا ألا نقدرهم ونقف لهم تبجيلاً وإجلالاً باحترام نظافتنا العمومية، ورمي الأزبال في الأماكن المخصصة لها (سلوك حضاري)؟ لنتذكر فقط أن مع كل ورقة نرميها ينحني لها رجل أو امرأة قد يكونان في عمر آبائنا.
يوم أمس، استيقظت بمشقة رغم مساعدة المنبه، كانت خيوط الشمس قد اخترقت زجاج نافذتي، حاولت التخشع في ركعاتي الصباحية، تناولت فطوري وهممت بالخروج للجامعة، كان شاباً في مقتبل العمر، يقف في نهاية الحي يزيح أوراق الأشجار المتساقطة عن الطريق والغبار تلفه كحزام حماية أو عاصفة صغيرة خاصة بمكان وقوفه، لكن بخطواتي السريعة اخترقت الحزام فباغتتني جزيئات التراب كأنها ترفض وجودي، لكوني دخيلة وغريبة عنها، فكان منه أن توقف ليسمح لي بالمرور وليوقف تلك العاصفة الصغيرة حتى أمر بسلام لكونها خاصة به، لم يكتفِ بإيقافها بل هتف لي بابتسامة صباحية جميلة: "المعذرة أختي"، فأجبت: "شكراً لك أنا التي تعتذر".
نعم أنا التي تعتذر، أعتذر عن أي معاملة دونية تلقيتموها، عن أي كلمة جارحة سمعتموها، عن حالكم المهمش وعن أي ضرر لحق بكم جراء تنظيفكم لشوارعنا ولأحيائنا ولحضارتنا.
شكراً لكم لكونكم سبباً من أسباب تحضرنا، كان الله معكم وفي عونكم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.