لقد تأثر الرأي العام الفلسطيني بموضوع هجرة الشباب إلى أوروبا، وما تبعها من حالات وفاة وفقدان وتشريد، وتناول الإعلام ذلك الحدث تحت عناوين كثيرة، منها: قوارب الموت، هجرة الشباب، الهجرة المنظمة، فيما وصف البعض ذلك بالمؤامرة؛ لتفريغ قطاع غزة من سكانه، وأياً كانت تلك المسميات أقرب إلى الحقيقة فهناك حقيقة لا بد من مناقشتها ومحاولة إيجاد حلول لها ألا وهي: ما السبب الحقيقي في إقبال الشباب على المغامرة بحياتهم من أجل مستقبل مجهول محفوف بالمخاطر؟! ولعل هذا السؤال يأخذنا لتساؤل آخر ألا وهو: هل رفض الشباب الحياة في وطنهم أم رفض الوطن أن يحتوي أبناءه؟!
سأرجع قليلاً إلى الوراء، لحضارات لم تكن إلا باحتضان الشباب ومعرفة قدراتهم وأهميتهم وأنهم مستقبل أي أُمة.
دعوني أذكر لكم كيف كانت الحضارات السابقة تهتم بالإنسان بشكل عام وبفئة الشباب بشكل خاص؛ حيث اهتمت تلك الحضارات برعاية الشباب منذ فترة التنشئة لكي تعتمد عليهم في قيادة المجتمع في المستقبل، فعملت على تعزيز الإحساس القومي لديهم وربطهم وولائهم بمجتمعاتهم، فقامت بزرع القيم والأخلاق في نفوسهم، واهتمت بتنوير عقولهم بالعلم وبنية أجسامهم بالرياضة وتعلّم فنون القتال.
ومثال على ذلك الحضارة المصرية القديمة؛ حيث جاء ذلك على شكل نصائح من الآباء والمربين، فها هو أمنحوتب يوجه نصائحه للشباب، فيقول: "احذر أن تسلب فقيراً بائساً أو أن تكون شجاعاً أمام رجل ضعيف، ولا تمد يدك لتمس رجلاً كهلاً، ولا تسخر من كلمة رجل مسن، ولا تجعل نفسك رسولاً في مهمة ضارة، ولا تندفع بقلبك وراء الثروة، ولا تجهد نفسك في الحصول عليها، بعد أن تكون قد حصلت على حاجتك؛ لأن الثروة لو أتت عن طريق السرقة، فإنك لا تستطيع النوم".
يا لها من نصائح رائعة تكتب بماء الذهب، انظر كيف كانوا يخاطبون الشباب ويوجهونهم، ولم يقتصر ذلك على الشباب فقط، فاهتموا بكل فئات المجتمع، وقاموا على توفير كل احتياجاتهم من مسكن وملبس ومأكل، والاهتمام بحالاتهم الصحية والاجتماعية، وكان العمال صغار السن يلقون اهتماماً ورعاية خاصة، فلا يُكلفون بأعمال شاقة؛ حيث كانوا يُكلفون بالأعمال الخفيفة التي تناسب أعمارهم.
وكان الملوك والحكام يُقدرون أعمالهم ويقابلونها بالشكر والثناء وعمل موائد للطعام للعامة في المناسبات والاحتفالات، وكان العمال في مقدمة المدعوين وذلك تقديراً لهم ولدورهم الهام في بناء الوطن.
كما اهتمت تلك الحضارات بتعليم الشباب، فأنشأت المدارس، وكان التعليم متاحاً لكل أبناء المجتمع، وفي وصية أب لابنه يقول: "ضع الكتاب في صدرك حتى تقي نفسك من أي عمل شاق، وتكون حاكماً ذائع الصيت".
ولم يكن الاهتمام بالتعليم عن طريق المدارس فقط، فكان هناك المسارح التي تسهم في عملية الثقافة من خلال مسرحيات ثقافية توجه الشباب.
وليس هذا فقط في الحضارة المصرية القديمة، فها هي الحضارة اليونانية التي كانت تهتم بالشباب من خلال الاهتمام بعملية التنشئة، فكان هناك المؤسسات الخاصة التي تعمل على تنمية الحس الوطني، وصقل المهارات والقدرات، كما أن الاهتمام بالجانب الرياضي للشباب كان من أبرز ما يميز تلك الحضارات؛ حيث كان الاهتمام ببناء الأجسام وتعليم فنون القتال، وكانت تقام مباريات المصارعة والمبارزة في المسارح العامة لإظهار القوة، وظهر ذلك جلياً في الحضارة الإغريقية،
ثم جاءت الأديان السماوية التي أعطت اهتماماً خاصاً بالشباب وتنشئته ورعايته واحترام الصغير للكبير واحتواء الكبير للصغير، وبثت روح التعاون ونشر المحبة والسماحة والرقي ونبذ الظلم والجهل والتعالي على الناس، كما عملت على تحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
وهكذا انتقلت القيم والأخلاق من جيل إلى آخر إلى أن وصلنا إلى يومنا هذا؛ حيث أصبحت القيم والأخلاق من التراث، ويندر وجودها في مجتمعاتنا، إن الشباب تائه في وطنه، غريب في مجتمعه، لا يجد من يساعده ويمد له يد العون والاهتمام، ولا يجد القدوة الحسنة التي تنير له الطريق، وتضعه على المسار الصحيح.
إن إهمال الحكومات لفئة الشباب وتهميشها لدوره الحقيقي وعدم الاهتمام بمستقبله الذي هو مستقبل الأمة المشرق هي الأسباب الحقيقية في كسر عزيمة وهمة الشباب، وإيصالهم لهذه الحالة التي وصلوا إليها، مما دفعهم للمجازفة بأرواحهم للبحث عن الأفضل.
إن من ذبح هؤلاء الشباب هي الحكومات التي اهتمت بالمحافظة على الحُكم وتركت الشباب ومشاكلهم، فلم تهتم بتعليمهم ولا بتثقيفهم ولا تنميتهم أخلاقياً وصحياً ورياضياً، ولا محاولة مشاركتهم في الحياة السياسية والمجتمعية.
وإذا كان دور الحكومات هو الأكبر والأبرز، فلا استثني من ذلك كل المجتمع، فأين دور الأسرة؟! وأين دور المدارس؟! وأين دور المساجد؟! وأين دور النوادي الرياضية والجمعيات المجتمعية؟! وأين دور التنظيمات والأحزاب التي يفوق عددها في وطننا عدد المواطنين؟!
إن ما نفعله بشبابنا هو أقرب إلى الذبح البطيء، فمن جهة الإهمال والتهميش، ومن جهة أخرى محاصرته وعدم احترام رغبته في البحث عن حياة أفضل، فإذا كنا حريصين على شبابنا ومهتمين بحياتهم فلنعمل بشكل جاد على احتضانهم والاهتمام بهم وبمشاكلهم، وليجدوا منا الدعم والمساندة، ويجدوا فينا المُثل العليا التي يحتذون بها وتنير لهم الطريق، فإن كنا عاجزين عن فعل هذا فلنترك لهم الخيار في البحث عن وطنهم الذي يبحثون عنه.
أسأل الله العلي العظيم أن يحفظ شبابنا ويوفقهم لما فيه الخير والصلاح، وأن يهديهم سبل الرشاد، إنه على كل شيء قدير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.