أحب اﻷمور إلى قلبي الحزين كانت تلك التي قمت بها مراراً وتكراراً، مراراً عديدة لا حصر لها، كنت أستفيق صباحاً متهيئاً للعمل فأذهب مباشرة إلى سرير ابني؛ حيث يكون نائماً على يمينه واضعاً خده على راحة يده؛ لأقوم أنا بالتحسيس على رأسه ثم أقرص شفته العليا بسبابتي وإبهامي، تلك القرصة الخفيفة ثم أقبل إصبعي من الموضع الذي لامس تلك الشفة، أتعلمون أمراً؟ كنت أشعر طوال اليوم أن شيئاً علق على إصبعي من شفته فأستمر بتقبيلهما طوال اليوم، ذلك كان ملاذي الآمِن طوال وحدتي اليومية.
كل يوم، وأنا خارج المنزل، كنت دائم الشعور بأنني لم أرَ أبنائي منذ زمن طويل، كالمغترب تماماً، وشوقي لهما كشوق هذا المغترب الوحيد المنسي الذي يجبر يومياً على رمي نفسه داخل طاحونة العمل فقط، فأبدأ بتخيلهما وهما يركضان نحوي كي يعانقاني ويقبلاني حين أدخل المنزل، ياااه كم أشتاق إلى تلك القبلة التي كنت أطبعها على رأس ابني وكم أشتاق لرائحته.. كم؟!
بينما كانت ابنتي تتمتع بقلب وشخصية قويين ربما تجاهي، كان ابني ذا شخصية عاطفية مثلي أنا، كنت أتمنى أن يكون لي ابن ذو شخصية قوية أكثر مني، فعاطفتي التي لطالما أدخلتني بمتاعب لم أتمنَّها ﻷولادي أو أحدهما، لكن جاء الواقع مغايراً تماماً، فكانت شخصية ابنتي ليست بعاطفية لكنها اتجهت ليست للقوة أيضاً بقدر ما اتجهت للقسوة على أثناء تلك الأحايين الكثيرة التي تعكر صفو العائلة، ولطالما أصابني ذلك بحزن بالغ وبخيبة أمل دفعتني للرحيل، بينما ابني كان عاطفياً وهو الشيء الذي كرهته في شخصيتي أنا، هذا الكره لشخصيتي حول نظرتي لابني إلى حزن وخوف عليه أكثر فأكثر، وكنت أرتعب حين أعتقد بأن يكون حظه مثل حظي، ثمة أحد لم يدرك ما كنت أخاف منه أو أفكر فيه.
كنت أحب ابنتي كثيراً، لكن لا أدري لماذا كانت تشعر أنني أحب أخاها أكثر، الحقيقة أنني كنت أشعر بالقرب من ابني كونه مثلي ثم يجتاحني ذاك الشعور بالحزن تجاهه فأتلهف لاحتضانه وعناقه وإجلاسه على حجري أو مداعبتي له ساعة إضافية، غير أنني كنت حريصاً جداً على عناقها أكثر منه، فقد كنت أود إشباعها من حنان الرجل قبل أن أرحل لتغدو أنثى متزنة اختبرت هذا الحنان الذكوري أكثر من غيرها من الفتيات اللواتي يقعن فريسة الرجل الحنون المخادع حين تفقد حنان الأب بالذات أو حين تبحث عن حنانه ولن تجده، كنت أعانق ابنتي عشرين مرة في كل يوم، غير أن تلك المشاعر تجاه ابني كانت تجتاحني خاصة عندما أفكر بالحياة والمستقبل وأفكر بأنني سأترك هذه العائلة لا محالة في النهاية، ما ذنبهما أن يكون قدرهما كذلك؟ كان قلبي يؤلمني وأشعر بتسارع دقاته ثم تلك الحرقة في صدري عندما أفكر في الأمر، مما دفعني في النهاية لمعاقرة الأدوية المميعة، هذه المشاعر المتضاربة من الحزن ووجع القلب (وخيبة الأمل في حياة يرجوها الجميع) والحرقة والعاطفة الجياشة تجاه أولادي أخرت قراري بالرحيل أربعة عشر عاماً، بدت تلك السنون وكأنها عمر كامل هدر بلا فائدة لولا أن الله رزقني هذين الابنين، كيف سأبدأ عمراً جديداً، كيف سأترك حياتي، متى أنسى وماذا سأفعل بالذكريات وكل الصور والأفلام التي تخص أبنائي والتي يعج بها بريدي الإلكتروني وقناتي على اليوتيوب؟ تفاصيل التفاصيل عمر قضيته مع أولادي لحظة بلحظة بالمكان والزمان.
سنة كاملة، وأنا أعاني نار هذا البعد والرحيل وما زلت، ونيران كثيرة اشتعلت من حولي غير تلك النار، نار أني فعلت ذلك ﻷحافظ على صورتي أمام أولادي في المستقبل وصعب عليهم أن يفهموا ذلك اﻵن، ونار كره أولادي لي بعد الرحيل، ونار أنني لا أطيق لهم الإثم على معاملتهم السيئة لي إن شبوا عليها، ونار أنهم وقعوا فريسة سهلة ضعيفة لمن طاب له محاربتي بهم، لقد استغلت طفولتهم وبراءتهم وقلة خبرتهم لشن حرب دنيئة علي، ونار أن أطفالي هم الخاسر الأكبر من ذلك كله، لكنها تبقى مجرد نيران أشعر بها تشتعل في صدري وحدي لا في غير أمكنة أو صدور، وهذا ربما عزاء لي كونها نيراناً بعيدة عن أبنائي وباقي أحبائي.
ورغم تلك النيران، فإن الله رزقني أنهاراً لا تنضب من حولي، أنهاراً من مياه عذبة قراح، تعالج جراحي وتقرحاتي من الحروق اليومية، إنها مياه لا تنضب منابعها ولا تقل فاعليتها في الشفاء، عندما أغوص في نهر من هذه الأنهر أرى من تحت الماء سماء صافية مزرقة وشعاع شمس جميلاً يعبرها يتخلل ذلك أحياناً ألسنة من لهب بعيد خادشة هذا المنظر الرائع خاطف الأبصار، لكنها سرعان ما تتلاشى تلك الألسنة من اللهب البعيد ثم تظهر من جديد وتتلاشى وكأنها تحاول لسعي، وأنا في نعيم من المياه العذبة القراح، لكني أغمس جسدي بتلك المياه، وأرقد برهة في الأسفل أراقب تلك الألسنة من اللهب اليائس، وهي تتلاشى مجدداً في فضاء واسع رحب، هذا ما هي عليه حياتي الآن، وأنا أتطلع ﻷن تختفي تلك النيران وألسنتها البائسة، وأتطلع إلى أن ينفد وقودها من الحقد والكره يوماً، وأن الشيء الوحيد الذي سيبقى هو أني ﻷبنائي وأبنائي لي وأني ﻷحبابي وأحبابي لي، ولن تقتلني تلك النيران أو تقتلهم، لكني أتساءل دائماً:
متى ينطفئ لهيبها إلى الأبد؟ ومتى ستختفي تلك الألسنة من حياتي إلى الأبد؟ ومتى ستعود ابنتي التي كنت أعرفها يوماً كما كانت؟ ومتى سيعود ابني الحنون إليَّ؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.